البعد التوحيدي للذكر في الإسلام
(الوسيلة والغاية)
الدكتور : محمد بنيعيش
هذا الكتاب :
يحاول أن ينبه أو يذكر بموضوع طالما اعتبر نافلة من جهة الفكر والعمل الروحي ومنهج الدعوة في عصرنا، بينما هو فرض الفرائض وشرط الشروط لنجاح الدعوة إلى الله تعالى ولتحقيق سعادة الإنسان على كل مستوياته الروحية والفكرية والمادية لايستغني عنه الغني دون الفقير ولا المثقف دون الأمي، ولا العالم دون الجاهل. ولا الحاكم دون المحكوم، ولا الأستاذ دون الطالب ولا الأبيض دون الأسود ولا الرجل دون المرأة ... ألخ.
إذ الكل مطالب به ومحتاج إليه احتياج افتقار واضطرار لضمان الإستمرار وتحقيق الاستثمار الأبدي الخالد للزمن الإنساني ...
المؤلف.
الدكتور محمد بنيعيش
تطوان
الدكتور : محمد بنيعيش
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
إلى من ذكرني بالله تذكير رؤية بدل تكلف الشعارات وصياغة الآراء. وبالوجد والحال عوض الخوض في المراء والجدال وبعمل الذكر قبل الإستئناس بأماني الفكر. وبالأخلاق ممزوجة بالأذواق.
إلى السيد الصادق في حاله ومقاله شيخي وأستاذي سيدي:
حمزة القادري بودشيش رضي الله عنه.
أهدي هذه الثمرة المتواضعة من فيض طيبه ونسيم حضرته المستفاد من صدق صحبته، حتى جعل حالي من لغة البوارق والإشارات فلا أستطيع أن أجد لوصفه العبارات. فقلت بلسان حالي أو قال من شرب من نفس هذا المعين الغالي :
نطقـت بلا نطق هو النطـق أنـــه لك النطق لفظا أو يبين عن النـطق |
تراءيت كي أخفى وقد كنت خا فيا وألمعت لي برقا فأنطقت بالبـرق |
فجزاه الله عني خيرا من شيخ مربي ودال على الله صادق .وأطال عمره لإفادة الأمة الإسلامية من بحر معرفته.
الفقير الى الله يريد وجهه : محمد بنيعيش
بسم الله الرحمن الرحيم
« اللهم صل على سيدنا محمد النبي المليـح صاحب المقام الأعـلى واللسان الفصيح وعلى آله وصحبه وسلم تسليما»
مقدمـة :
في خضم مستجدات العصر بكل مظاهره العلمية والتقنية والإقتصادية والإجتماعية والسياسية وتشكلاتها النوعية الحالية يطرح مشكل الإنسان مع ذاته ومع مجتمعه وماله وبيئته، وهو مشكل يتسم طرحه بصيغة القلق والإضطراب و إسقاطات الوهم في البحث عن ماء الحياة بين خداعات السراب. إذ يهرع أغلب المنظرين والتقنيين من اقتصاديين ونفسيين واجتماعيين وسياسيين الى إيجاد حلول لتحقيق ارتواء بها لا يزيد الإنسان سوى عطش مزمن لا يستطيع بعده حراكا رغم وجود الماء في يده. كالذي يبسط يديه الى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، لأن التناسب غير موجود بين الإنسان وإرادته، فكيف يؤثر في غيره. أم كيف يحافظ على بيئته ومجتمعه؟
فالإنسان جزء لا يتجزء من بيئته، وهو أخص من الجماد والحيوان. وإذا تساوى الإنسان مع أخيه الإنسان. فالأخص منه هو ذاك الذي يحافظ على وحدة كيانه. باعتباره كلا متجزئا من جهة وغير متجزئ من جهة أخرى. وذلك لأن له روحا له خصوصيته وجسدا له اعضاؤه وحواسه. ثم باعتباره إنسانا مكونا من روح وجسد. إذا اعتل روحه اعتل بذلك جسده وليس العكس، لأن الروح له خصوصيته التي هي فوق مستوى التجزؤ الجسدي وتحلله. ولهذا فيبقى دائما هو الأساس الأول في سعادة الإنسان وسلامة كيانه إن هو حافظ على صحته ووظف لمصلحة الإنسان وهو في أرقى تكوينه: كما قال الله تعالى، « لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم».
فكان على الجسد أن يخدم الروح لا أن الروح تصبح خادمة للجسد. لأن في خدمة الروح للجسد استهلاك للطاقة والزمن الإنساني. أما خدمة الجسد للروح ففيها استثمار له وتوليد لطاقته. وشتان الموازنة بين الإستهلاك والإستثمار في هذا المضمار!.
وهذا الكتاب المتواضع يحاول أن ينبه أو يذكر بموضوع طالما اعتبر نافلة من جهة الفكر والعمل الروحي ومنهج الدعوة في عصرنا، بينما هو فرض الفرائض وشرط الشروط لنجاح الدعوة الى الله تعالى ولتحقيق سعادة الإنسان على كل مستوياته الروحية و الفكرية والمادية، لا يستغني عنه الغني دون الفقير ولا المثقف دون الأمي. ولا العالم دون الجاهل ولا الحاكم دون المحكوم. ولا الأستاذ دون الطالب. ولا الأبيض دون الأسود ولا الرجل دون المرأة إلخ... إذ الكل مطالب به ومحتاج إليه احتياج افتقار واضطرار لضمان الإستمرار وتحقيق الإستثمار الأبدي الخالد للزمن الإنساني. إنه موضوع ذكر الله تعالى المنقذ الوحيد بشروطه اللازمة للبشرية مما تتردى فيه من ويلات التيه والزيغان ومن آفات التلوث والتناكر و العصيان. حتى انقلب التصور الى ضد مصلحته وأصبحت القيم توزن على نقيض غايتها، لأن السيل في التلوث قد بلغ الزبى باختراق الفاسد لحدود الصالح ولم يبق من وسيلة للتطهير بعد هذا الوضع الذي آل إليه مصير أغلب أفراد النوع الإنساني سوى الإغتسال بماء الحياة لإنقاذه من هذه الطامة العظمى والبلية الكبرى والتي إذا لم تستدرك عمت فحق بعدها العذاب والهلاك الأبدي الذي لا ينفع معه استثمار الأجساد، ولا تقنيات المواصلات المادية وتوليد الكهرباء والطاقات، أوضبط التيارات بالسدود والتصرف فيها بحدود، لأن طاقة الإنسان قد استهلكت واستهلك أهم ما فيها وهو روحه الذي كان أصلا غير قابل للإستهلاك، حتى أصبح المال الذي كان من الواجب أن يخدم مصلحة الإنسان ويوفر له الإستقرار للإستثمار الروحي سبب الموت والخراب والقلق النفسي لديه. وأصبح العلم بعدما كان شرفا للإنسان وسيلة هدم وانحراف وغفلة له عن حقيقة وجوده وغايته!
فهل من وصفة جذرية علاجية لهذا المرض العضال الذي أصبحت تتردى فيه الإنسانية دون مؤشرات على الإستدراك بالدواء المناسب لمرض العصر؟
وهل من وسيلة لتوحيد طاقات الإنسان المهدورة حتى تستثمر في محلها وتصبح منتجة من أجل البقاء لا من أجل الفناء؟
إن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها مما هو مجال انشغال المهتمين بأدواء العصر يطرح بعضها هذا الكتاب باسلوب فكري مطبوع بذوقية روحية مستقاة من التجربة الطويلة نسبيا في حقل الإستثمار الخاص بالإنسان ككائن مسؤول في هذا الكون مسؤولية حمل الأمانة وتبعاتها.
إنها الطريقة القادرية البودشيشية حقل أولياء الله الصالحين الذين أفنوا أعمارهم في ذكر الله تعالى ومراقبة سلوك رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا وروحا وتجليا سلوكيا على الصالحين من أمته. حتى أصبحوا بالأخذ عن السند الروحي والسلوكي والنصي المتصل يستنيرون بالمنهج النبوي استنارة علم وعمل وذوق وحال، فتمت لهم الأسوة الحسنة الموصوفة بأجمل الأوصاف. فاستحقوا بذلك أن يكونوا صادقين وأهلا للإتباع والإقتداء. ظاهرا وباطنا. لأنهم فهموا معنى الإستثمار وطريقه فسلكوه من باب قول الله تعالى : «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا» صدق الله العظيم .
هذا وقد عنونت الكتاب ب: البعد التوحيدي للذكر في الإسلام (الوسيلة والغاية). فقسمته الى ثلاثة فصول :
الفصل الأول : المعطيات التوحيدية للذكر بين الواقع والنص.
الفصل الثاني : البعد التوحيدي لوظائف الذكر.
الفصل الثالث : الذكر كأداة وصل وتوحيد بين الكائنات
والله الموفق الى ذكره وشكره وحسن عبادته.
يقول تعالى : «فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون»
المعطيات التوحيدية للذكر
بين
الواقع والنص
«محمد رسول الله والذين معه»
وحدة أشخاص وعقيدة وسلوك
حينما يطرح موضوع التأريخ للواقع المعرفي ونشأة علم التوحيد عند المسلمين وتطورها فإنها تتبادر الى الذهن عدة صور متجاذبة فيما بينها حول جدلية المعرفة والتاريخ، وهل المعرفة من حيث هي معرفة تخضع لظروف التاريخ بكل ثقله وتحولاته السياسية والإجتماعية والإقتصادية أم أن المعرفة الحقة تمثل ثباتا ومقاما لا حالا كما يعبر عنه الصوفية، بمصطلحاتهم، وهذا المقام لابد أن ينال منه السالك الى الله تعالى كيفما كان تموضعه التاريخي؟
إن تحديد المراحل التاريخية للمعرفة عند المسلمين كفيل بأن يعطي لنا الصورة الكاملة للمستوى المعرفي الذي عرفته الأمة الإسلامية، وذلك لأنه بقدر ما اتضحت لنا الصورة العلمية التي كان يتمتع بها هذا الجيل أو ذاك بقدر ما أمكننا تقييم المعرفة المحصل عليها داخل الساحة المعرفية عندنا نحن المسلمين، إما على شكل تنازل معرفي انحدر بانحدار الزمن وضعف بقدر بعده عن الأصل المؤصل لهذا العلم أو ذاك روحا أو نصا، وإما على شكل تصاعد معرفي بني على بذرته الأولى جهازه وهيكله العام الذي تشعب إليه من خلال النظر والإستدلال ومن خلال الجدل وتعاقب الأجيال.
واعني بالتنازلي هنا والتصاعدي أي المستوى المعرفي والمفاهيمي الذي كان يتمتع به الجيل الأول من الأمة الإسلامية وخاصة عهد الصحابة والتابعين.
فهل المستوى المعرفي عند هذا الجيل من السلف كان أرفع مما وصل إليه وأطره الجيل اللاحق ومن ثم عرفت المعرفة وخاصة علم التوحيد بمفهومه الواسع انخفاظا في المستوى العمقي الذي كان يتمثل عند الصحابة رضوان الله عليهم، أم أن المستوى عندهم كان أدنى مما عرفه الجيل اللاحق الذي ألف وكتب، وفكر ونظر، واستدل وسبر الى غير ذلك من الإجراءات العلمية والفكرية العميقة والمعقدة والتي من خلالها حددوا تصوراتهم وتعاملوا بها مع النصوص القرآنية والحديثية لصياغة مفاهيم حول قضايا التوحيد، وخاصة فيما يتعلق بالصفات وما تفرع عنها من النظر والبحث في قضايا النفس والكون ؟.
أمام هذه التساؤلات المستقرأة من عدة آراء ومواقف متضاربة ما بين مؤيدة فكرة التنازل المعرفي ومؤيدة لفكرة التصاعد رأينا أنه لابد من عرض للواقع المعرفي والفترات الزمنية التي احتضنت هذا الواقع عند المسلمين، وعلى رأس هذه الفترات نخص بالحديث عهد الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم :
إذ تعد هذه المرحلة أهم محطة علمية ومعرفية في تاريخ البشرية جمعاء وذلك لأنها تمزج بين ذهبية المعرفة وذهبية التاريخ في آن واحد. لأنها تمثل مرحلة الرعيل الأول للأمة الإسلامية وتمثل الصورة النموذجية للإقتداء عند باقي الأجيال اللاحقة لها وذلك لأنها مرحلة الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء والمبعوث رحمة للعالمين.
وهؤلاء الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطوا كليتهم له وطرحوا إرادتهم أمام إرادته وإرشاداتهم بإرشاداته وتأويلاتهم وتفسيراتهم أمام تاويلاته وتبيانه. وقد وصفهم الله تعالى أعظم وصف وأجمله وهم في حضرة هذا الرسول العظيم يلبسون حلتهـم المعرفية المتميزة ويتصدرون تاريخهم الذهبي الخالد بقوله تعالى : » محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما« صدق الله العظيم.
فكانت هذه الآية الكريمة جامعة مانعة، وضامة في أحضانها الصورة الكاملة للأمة الإسلامية وهي في قمتها المعرفية والسلوكية والتاريخية، وذلك لأنها أعطت تقسيما جوهريا لسر هذا التصدر المعرفي الذي ميز عهد الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمحمد رسول الله شخصية متميزة وعين ساقية وشمس منيرة وباعثة للحيوية ومركز قوي للبث والإرسال.
« والذين معه» أشخاص عطاش وأزهار متجهة بكليتها حيث اتجهت هذه الشمس لإستمداد الحيوية، وأجهزة صادقة وجاهزة للإستقبال والعمل.
ومن هذه الخصوصيات التي ميزت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وشخصية أصحابه تم البث المباشر وتم الإستقبال الجيد. وانعكست الصورة، على الصورة حتى أضحى «محمد رسول الله» صورة في صحابته وصحابته نسخة من صورته. فكانت النتيجة أن اتحد الباث والمستقبل في وحدة تصورية وعملية جمعتهما في موجة واحدة وهي قول الله تعالى: «أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود».
إذن هي وحدة الأشخاص تقتسم فيما بينها وحدة العقيدة ووحدة السلوك. وتعيش هذه العقيدة وهذا السلوك معايشة وجدانية وشعورية، بل إنها تنتقل بهذه العقيدة والسلوك من مستوى السماع والآلية الى مستوى الشهود والتكيف.
وهنا يكمن سر العمق المعرفي عند الصحابة، ويتضح جليا هل كانت مرحلة الصحابة تمثل مرحلة القمة العقائدية والدراية الراسخة بعلم التوحيد أم أن مرحلتهم كانت مجرد تلق حرفي للنصوص وامتثال للأوامر دون وعي أو إدراك لما تتضمنه تلك النصوص من معان وأسرار وظواهر وبواطن وحدود ومطالع؟ وهل ان الصحابة كانوا يمارسون أداة معرفية متميزة ويتعاملون مع واقع معرفي متميز ومرجع خاص لا يخطىء ولا يلهم إلا بالصواب الأصوب وبالثمين الأثمن؟
إن التلقين النبوي للصحابة رضي الله عنهم كانت له خصوصية تجمع بين النص وهو الخطاب المفيد بالمعنى عن طريق الألفاظ والتركيب الإعجازي لليقين والتصديق به عقيدة وشريعة، جملة وتفصيلا، وبين الشخص النبوي وهو الروح المجسد للنص في أبعاده وغاياته وإيحاءاته.
وبين النص والشخص النبوي يقف الصحابي مستقبلا لفظ النص بالسماع وروحه عن طريق إيحاء الشخص النبوي بالمشاهدة أو الشهود، -حسب تعبير الصوفية-. ولهذا فإن الصحابي كان لايحتاج إلى زيادة استفسار ولا الى محاولة تأويل لأن تأويل الخبر وقوعه، ووقوعه شهوده. وبما أنه غارق في عين الشهود او الشهود العيني فإنه لا يحتاج الى شهود ما هو مشهود. ومن هنا كان مستثقلا أن يستفسر الشخص عن الواضحات وذلك لأن توضيح الواضحات لا يزيدها إلا غموضا فما بالك بتوضيح المشهودات.
ولكي يستقيم الكلام على أسس مستدل عليها ولا يوصف بالذاتية والأشواقيات، أستعرض بعض النصوص الدالة على وجود هذه الخصوصية المعرفية في عهد الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمن بين النصوص المشيرة الى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بخصائصها المتميزة نجد هذا المزج بين الدعوة والداعية مما يفسر سر نجاح الرسول في نشر دعوته وذلك من خلال هذا الخطاب البليغ من قول الله تعالى: « يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا الى الله بإذنه وسراجا منيرا». وهو بهذه الصفة ينقل مدعويه من مرتبة السماع الى الشهود بواسطة أنه كما وصفه ربه سبحانه وتعالى:«سراجا منيرا» وأن هذه الإنارة ليست ذاتية لهذا الرسول الكريم وإنما سرها يكمن في أنه «داعيا الى الله بإذنه». فالإذن الإلهي هو محور هذه الإنارة وهو الحبل الواصل بين الدعوة والداعية والموحد بينهما حتى أعطى نماذج إنسانية ترتبت عن هذه الوحدة جمعت بدورها بين وحدة العقيدة ووحدة السلوك. وهذه العقيدة وهذا السلوك لا يقبلان التأويل ولا التغيير وإنما كل من تمكن منهما أضحى متجوهرا بهما، وهذا هو وجه التوحيد والإيمان الصادق عند الرعيل الأول من الأمة الإسلامية. ومن هنا جاء الخطاب الإلهي واصفا حقيقة هذا التوحيد المنشود على مستوى الواقع الممارس وذلك في قول الله تعالى :«من المومنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا» وكيف يبدلون ما شاهدوه وفنوا في مشاهدته حتى أنهم كانوا يشتكون كما يشتكي الرضيع من نقص لبن أمه بالصراخ والتقلب، وذلك كلما شعروا بفتور أو ظرفية طارئة على مستوى هذا الشهود المعرفي مما نجد نماذج له واضحة كل الوضوح ومزكية بصورة موضوعية ما صبونا الى التعبير عنه من القول بأثر الشخص النبوي وتميزه وانعكاسه الروحي على صحابته وهم في حضرته وملازمته.
فمن بين هذه النماذج المشار إليها نجد هذا الحديث الصحيح المصور للواقع المعرفي عند الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي حنظلة بن الربيع الأسيدي أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال كيف أنت ياحنظلة؟ قلت نافق حنظلة، قال سبحان الله ما تقول؟ قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الازواج والاولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبو بكر رضي الله عنه : « فوالله إنا لنلقى مثل هذا» فانطلقت أنا وابو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد و الضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات». رواه مسلم
وهذا الحديث يؤكد لنا عمقية المعرفة عند الصحابة بكل صورها الموضوعية ويؤسس مبادئ للتحصيل المعرفي لا يتم على صـورتـه السليمـة إلا بها ومن هذه المبادئ نجد :
1) الملاحظة الداخلية والإستبطان : وتتجلى هذه الملاحظة في ذلك التشكي الذي عبر به حنظلة بقوله «نافق حنظلة» مميزا بذلك بين واقعه الشعوري وهو في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. والحالة التي يشعر بها وهو بعيد عن هذه الحضرة. وأمام هذه الموازنة وجد أن المستوى يتفاوت شعوريا بين الحضور والغياب. فظن إذاك حنظلة أن هذه الحالة مرضية ينبغي اللجوء بسببها الى الطبيب.
2) وحدة الشعور : وهذا يعني أن المعرفة التي كان يتمتع بها الصحابة وهم بحضرة الرسول ليست مجرد تصورات خيالية أو انطباعات ذاتية غير ذات مقياس عام. وإنما هي معرفة ذاتية ومشتركة بين السالكين للمنهج الذي لقنه الرسول لصحابته، وتتجلى هذه الوحدة الشعورية المعرفية في قول أبي بكر رضي الله عنه
« فوالله إنا لنلقى مثل هذا».
3) اعتماد المرجع الامين: وهذا العنصر أهم وسيلة للتحصيل المعرفي عند الصحابة رضي الله عنهم. وقد كان بإمكان أبي بكر أن يفسر لحنظلة حالته التي يشتكي منها بشتى التحليلات والمبررات يختلط فيها الصواب بالخطأ. لكن أمانته العلمية فرضت عليه تفويض هذا التفسير إلى الأستاذ المختص في الميدان وهذا يعطي لنا نموذجا غاية في الأدب والاخلاق العلمية، فكان إجراء أبي بكر هو اللجوء الى المرجع الامين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبر عن ذلك قول حنظلة «فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسـول الله صلى الله عليه وسلم ...».
4) الإنعكاس المعرفي : وهذه أرقى درجات التلقين والتحصيل، إذ أنه بقدر ما كانت شخصية الأستاذ قوية وبقدر ما كان طلب التلميذ وتصديقه صحيحا لأستاذه. أمكن نقل المعرفة إليه كما هي على مستوى ما يسميه الصوفية بالشهود. وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الحقائق مشاهدة بالقلب والحس فإنه استطاع ان يلقن أصحابه هذه المعارف على مستوى المشاهدة أو ما يقرب منها، ويتجلى ذلك في قول حنظلة وهو بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم «كأنا رأي العين».
وعند هذه المسألة الدقيقة يطرح سؤال وهو: بأي أداة ينبغي أن يتعامل المسلمون مع كلام الله ورسوله. هل أداة ما يسمى بالقلب أم ما يسمى بالعقل؟ فإذا قيل بالعقل فإن هذه الاحوال التي عبر عنها الصحابة رضي الله عنهم وهذه المشاعر التي صرحوا بها ليست من خصوصيات العقل. إذ العقل ليس سوى مصدر أحكام وصفية جامدة من كل شعور أو إحساس بقرب أو بعد بل إنه يستمد أحكامه بحسب ما يعطيه إياه القرب والبعد من مواصفات فيحكم بحسبها. ومن هنا كانت أحكامه تحتمل الخطأ والصواب على حد سواء بحسب ما يتحصل عليه من صدقات من الخارج الحسي أو الداخل الباطني. ومن هنا فإن وظيفته ليست سوى وزن المعرفة بحسب معطياتها ومصادرها.
أما إذا قيل بالقلب، فالقلب محل الشعور والإحساس والإنشراح والإنعكاس المعرفي، وهو محل العقد والثبات. وهو بهذه المواصفات يشخص المعرفة تشخيصا بحسب توجهه نحوها، وبنقلها من التصور الخيالي إلى الشعور الوجداني، بل إنه يصبح المهد للتصور الخيالي والذهني بحسب صفائه ونوعية توجهه فيوظف العقل بكل أحكامه لخدمة مصالحه. ويتجلى ذلك في قول الله تعالى : « أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها».
إذ التدبر ونتائجه من حيث الوظيفة العقلية رهين بالتوجه القلبي وإرادته في التلقي. وحيث أن القلوب مقفلة فإن العقول لاتجدي في التحصيل المعــرفي وخــاصة معرفة الله وتقوية الإيمان به وبرسوله وبمعاني كتابه موضوع التدبر.
وللحسم في المسألة حول أي الأداة التي يجب إعطاؤها الأسبقية في التعامل مع الدين أطرح سؤالا وهو هل الوحي الذي أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم تلقاه بقلبه أم بعقله؟.
والإجابة سريعة وحاسمة عن هذا التساؤل وهو أن القرآن نزل على قلبه بدليل قول الله تعالى : « وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين».
ومن هنا فإن الطريق الأسلم والأوفق لما سلكه السلف الصالح في تعاملهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقيهم عنه كلام الله تعالى هو التلقي بالقلب من القلب لكي يصح الانعكاس وتتضح الصورة الأصلية اتضاحا كاملا . أما إذا تعاملنا مع الإسلام بمجرد العقل الواصف والمفسر، فإننا نكون كمن يريد أن يستعمل جهاز المذياع لتلقي البث التلفزي. إذ أنه لايحصل سوى على السماع دون الصورة. وشتان ما بين السماع وحده وبين السماع والصورة في الدلالة على الحقيقة!
ولتحقيق هذا التلقي القلبي يلزم عدة إجراءات نصت عليها الشريعة الإسلامية قرآنا وحديثا نبويا. من بينها قول الله تعالى : «قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى». وغير ذلك من الآيات الدالة على أغذية القلب ومقوياته.
وإذا كان هذا هو مستوى المعرفة ومبادئها عند الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا بذلك يمثلون وحدة أشخاص وعقيدة وسلوك، إذ كانوا أعرف بمعاني القرآن والسنة النبوية وأحراهم بالوقوف على كنهها ودرك أسرارها، إذ هم الذين شاهدوا من النبي صلى الله عيله وسلم الوحي والتنزيل وعاصروه وصاحبوه بل لازموه آناء الليل والنهار مستنيرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول للعمل به أولا وللنقل إلى من بعدهم ثانيا وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وحفظه ونشره، فكانوا أعرف بمواطن العلاج لمن في قلبه ريب أو شك إذ كانت لهم وسائل علمية تعتمد على النص كنص وتوظف هذا النص توظيفا مناسبا لنوعية الضرورة ونوعية المرض الذي يجب علاجه. كما أنه كانت لهم وسائل عملية إقناعية تتلخص في الكف الباطني عن الجري الذهني وراء بعض المسائل المتشابهة والسكوت عن الخوض فيها أو إسكات من يريد إثارة ما لا مدعاة إليه وما يخشى من إثارته التشويش على عقائد الناس.
ومن هنا فإن المدرسة المحمدية مثلت مرحلة القمة المعرفية بكل صورها ومعانيها وبالتالي فاللاحقون بعد هذه المدرسة يمثلون عدا تنازليا للواقع المعرفي الذي طبع عهد السابقين وخاصة عهد الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن اللاحقين بإمكانهم اختراق المرحلة التاريخية واستحضار المرحلة المعرفية التي كان عليها الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سلكوا نفس النهج ووظفوا نفس الأدوات التي استخدمها الصحابة وهم في تتلمذهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا المنهج لن يكون سوى منهج روحي في الأساس وهو المرتكز على التواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداة روحية هي عينها التي وظفها الصحابة رضي الله عنهم حتى تسنى لهم أن يحافظوا على وحدة شعورهم وهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي ما تضمنها حديث حنظلة عند تحديد النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة لضمان استمرارية ذلك الشعور بقوله:
«والذي نفسي بيده لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم..». وهذا يضمن تحقيق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا كما سنبينه عند حديثنا عن مفهوم الذكر وعلاقته بالائتساء من خلال تفسيرنا لقول الله تعالى «لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا» صدق الله العظيم.
الشعائر التعبدية بين مواقف
الافراط والتفريط
من خصوصيات الدين الإسلامي الحنيف أنه يجمع بين تلازم العقيدة والعبادة والسلوك في صياغة بعده التوحيدي الشامل والخالص وذلك في معطاه النصي المؤسس للمعطى الواقعي العملي، مما يترتب عنه توحيد البنية والوظيفة في كيان الإنسان ووجدانه كوسيلة لمنع أي تناقض بين عناصره الجوهرية والعرضية وبالتالي تحقيق الانسجام الذاتي الذي سيؤدي لا محالة إلى الانسجام الموضوعي والحركي بشتى أبعاده وصوره سواء كان فرديا أو جماعيا أو كونيا أو كيانيا.
غير أن هذا المفهوم التوحيدي الشامل الذي قصده الدين الإسلامي في معطاه النصي قد يجد لدى بعض المنتمين إلى الأمة الإسلامية من مثقفين ومتصدرين للدعوة نوعا من القصور النظري عن طرح الجانب التعبدي في ارتباطه بالجانب السلوكي والدعوي وغيره من السلوكات العملية والعقدية على مستوى وحدة الغاية والتلازم الموضوعي بين هذه العناصر مجتمعة.
وهذا القصور قد ينحو بالبعض إلى التعامل مع موضوع ذكر الله بصفة خاصة والعبادات بصفة عامة تعاملا ضيقا ومن وجهات نظر تنم عن خلفيات تلتبس فيها الذاتية بالموضوعية والقصدية بالعفوية... الشيء الذي يؤدي إلى إهدار فعالية الشعائر التعبدية في الإسلام وسلخ مفهوم القدوة و الائتساء السلوكي طابعه الحقيقي، وبالتالي إحداث شرخ في مفهوم التوحيد بالمعنى الإسلامي الخالص.
ومن هنا فقد نجد مواقف متضاربة من الشعائر التعبدية وأبعادها في الإسلام وخـاصة جـانب ذكـر الله تعالى، وهي مواقف متأرجحة ما بين الإفراط الناجم عن إصباغ الطابع المادي أو الوضعي وتغليبه في فهم الأحكام الشرعية وأبعادها التوحيدية وما بين التفريط المترتب عن تضييق الوظيفة التعبدية في دائرة متداولة ربما لا يراعى فيها الروح الإسلامي وعمقه المعرفي والسلوكي بشقيه الظاهري و الباطني مما ترتب عن هذين الإتجاهين على أقل تقدير أن كلا طرفي قصد الأمور ذميم ألا وهما : الإفراط والتفريط.
فالممثلون لجانب الإفراط قد حولوا العلوم الإسلامية بل العمل الإسلامي بصفة شاملة وخاصة في العصور المتأخرة إلى مفهوم مادي أرضي لا يكاد يرتقي إلى ما فوق الغلاف الجوي للكرة الأرضية.
فقد أضفوا على العلوم الإسلامية طابعا تقنينيا جافا لا تراعى فيه سوى حقوق الأشخاص العينيين والهيكليين لاغير، ولا ينظر إلى آثارها إلا من وجهة بدنية صحية واجتماعية تنافعية واقتصادية نقدية وسياسية سلطوية... إلخ. إلى أن أضحت العلوم الإسلامية محل المقارنة والمزايدة بينها وبين العلوم الوضعية إنسانية كانت أم مادية تجريبية.. إلخ. وبالتالي تسرب هذا المفهوم إلى إسقاطه على الشعائر التعبدية، فاعتبرت الصلاة من هذا المنظور رياضة بدنية، والحج كذلك استجماما سنويا وسياحة بالإضافة إلى بعده الإنساني في التواصل وتبادل المنافع وخاصة التجارية والإقتصادية.
أما الزكاة فإنها لاتكاد تخرج عن تصوير واحد منحصر في بعدها الاقتصادي النقدي لاغير، وأما الصيام فإنه يغلب عليه الطابع الصحي البدني ويصاغ بمرادف مادي يكاد ينحصر في الحمية وتربية الأمعاء.. إلخ. أما موضوع ذكر الله بمفهوم تكرار اللفظ والتركيز على معناه فإنه إما أن لا يجد اهتماما بالمرة وإما أن ينظر إليه بصورة مادية هو الآخر وذلك بالمقارنة بين إجراءات الذاكرين الله من المسلمين وبعض أساليب العمل المادي الرياضـي في شعـائر الهـنود أو الصينييـن وغيـرهم من شعـوب آسـيا كـاليوغا والايحاء الذاتي وغيرهما من الرياضات المتأسسة على التركيز الذهني (لا الروحي) والتحديد البصري والجسدي بصفة عامة لضبط الانفعالات، أو للقيام ببعض الأعمال البهلوانية التي قد تعتبر توهما في نظر الهاوين لها من خوارق العادات ومن أعمال الروح، بينما هي ليست سوى نتيجة رياضة بدنية وذهنية لتقوية الإرادة ولا علاقة لها بالروح ألبته : « قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا».
وعلى هذه الوتيرة تستمر بعض التفاسير في إسقاطاتها وجراءتها على أحكام العبادات في الإسلام حتى ليكادون يصورون الدين في صيغة شبه علمانية، لا علاقة للمعتنق له بالغيب ولا بالعمل الروحي إلا من باب التسليم المبدئي بأصل الدين في كليته مع إقصاء هذا الجانب بصورة شبه كلية من حساباتهم العلمية وتعليلاتهم بدعوى المعاصرة والموضوعية الوضعية وما إلى ذلك من المبررات الزائفة والمنمة عن عجز في الإدراك الموضوعي لأبعاد العبادات في الإسلام وبالتالي عن عجز في مواجهة التمويهات المعادية للإسلام بعقيدته وعبادته وحدوده... حتى أن البعض يلجأون إلى التضحية بالمعاني الدينية لحساب مفاهيمهم الضيقة وعجزهم الفكري.
ولربما قد يذهب البعض إلى بتر الآيات قصدا أو اقتصارا أو إهمالا وذلك بعرضها مفصولة عن طابعها الروحي وشرط صحة أو كمال أبعادها. كما نجد مثلا لدى بعض الكتاب المسلمين عند عرض هذه الآية محور هذا الموضوع وهو قول الله تعالى: « لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة لمن كـان يرجـو الله واليوم الآخر وذكر اللــه كثيرا».إذ يتم عرض الآية للاستشهاد على ضرورة الائتســاء برســول اللـه وشروطه دون إكمـال الآية بقول الله تعالى « وذكر الله كثيرا». وكأن هذه الجملة من الآية مجرد نفل من القول أو زيادة لا محل لها من الإعراب جل كلام الله تعالى في أن يظن به هذا.
أما التفريط المترتب عن تضييق الوظيفة التعبدية وحصرها في المبنى اللغوي التداولي فهو ما نجده عند بعض أصحاب الاتجاهات التي تدعي الأصولية أو السلفية، إذ رغم تعاملهم مع الدين بدعوى الاتباع الحرفي للنصوص الدينية والتسليم الإيماني، فإنهم يحصرون مالم يرد فيه حصر ويقتصرون على مالم ينص عليه الدين بقصر. ومن هنا يعطون للشعائر التعبدية صورا سطحية وتفسيرات لفظية عرفية أكثر منها مفاهيم دينية إسلامية لها خصوصياتها وطابعها الروحي وبعدها الغيبي، وذلك بالاهتمام بظاهر الشعائر دون أبعادها وبواطنها وبحرفياتها دون معانيها وهكذا، حتى قد يتم المزج بين العبادة الواجبة والمستحبة في حكم واحد. فيسقطون أحكام الفرض على أحكام النافلة، ويقيدون هذه الأخيرة تقييدا لم يرد به نص ولم يرد به قطع، إذ أغلب الأعمال التي تدخل في دائرة النوافل هي من خبر الآحاد وتختلف الروايات في تحديد صيغها وأعدادها وأركانها ومددها بما يجعلها في بعض الأحيان تدخل في حكم ظني الثبوت حسب اصطلاح المحدثين.
ورغم هذا فقد يصدر البعض من المسلمين فتاوى مضيقة لعمل النوافل بدعوى أن لا اجتهاد في العبادات، وأن لا نوافل إلا ماورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاصيغة للأذكار والأدعية إلا ما رواه عنه الصحابة رضوان الله عليهم. وهذه دعاوي حق أريد بها تضييق مجالاته، إذ أنه لم يرد في القرآن الكريم أو السنة النبوية نص يحصر الأذكار والأدعية في صيغة معينة لايجوز تجاوزها. اللهم إلا ما كـان مـن تنبيه الرسول صلى الله عليه وسلـم عليـه للحيلول دون تغيير معنى كلامه وإعجاز بلاغته.
كتصحيحه لنقل الصحابي عنه مباشـرة دعـاء الـنوم عـند قوله - أي الصحابي- « ورسولك الذي أرسلت» فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
« ونبيك الذي أرسلت » . وذلك لأن الصيغة الثانية أبلغ وأكثر دلالة وتحديدا لمعنى النبي والرسول في جملة واحدة.
كما أنه فيه إفادة علمية متلخصة في أنه لا وصول إلى مقام الرسالة إلا بعد الحصول على مقام النبوة وأن كل رسول نبي وليس العكس.
إذن يبقى الغالب على مسألة الذكر والدعوات الحرية في التعبير والصيغة مع مراعاة صحة المعنى وصدق النية. ولهذا فقد وردت الآيات الكثيرة و الأحاديث المفيدة للذكر بكل أسماء الله تعالى. كقوله تعالى: « ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها» وكذلك قوله : « قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى»، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد صيغة الصلاة عليه إلا بعد مراجعته فيها، مما يعني فتح المجال للاجتهاد في صياغتها.
ولذلك وردت في عدة أحاديث بصيغ مختلفة بحسب الاقتضاء وحاجة المصلي عليه صلى الله عليه وسلم.
كما أنه لم يرد في نص قرآني أو حديثي إشارة أو دلالة أو اقتضاء يفيد بأنه لا يجوز التلفظ باسم «الله» بصورة مفردة أو إسم «هو». أو باقي أسماء الله الحسنى. كوسيلة تعبدية وسلوكية روحية، بل العكس هو الوارد كما رأينا إذا أن صريح النص يدل على الذكر بها إسما وضميرا وجملة.
وأمام هذه السعة التي ورد النص عليها في مجال الذكر قد نجد اعتراضا تضييقيا لغويا يريد أن يتحكم في القضايا الشرعية باللغة العامية المـتداولـــة وبالتـالي إصدار فـتوى عـلى الـشرع نفـسه بما لم يـسمح بـه ولم ينص عليه.
وكنموذج على هذا المنحى الذي تميل إليه بعض الفئات الإسلامية المعاصرة ذات البعد السياسي أو الحركي كما يسمونه نجد جذوره في الآراء الفقهية لابن تيمية من حيث التعامل مع النوافل وخاصة ذكر الله تعالى يقول في بعضها : « إن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان كلاما تاما مفيدا مثل «لا إله إلا الله» ومثل «الله أكبر» ومثل « سبحان الله والحمد لله». ومثل «لا حول ولا قوة إلا بالله» ومثل « تبارك إسم ربك» « تبارك الذي بيده الملك » « سبح لله ما في السموات والأرض» « تبارك الذي نزل الفرقان ».
فأما «الإسم المفرد» مظهرا مثل « الله الله» أو «مضمرا» مثل «هوهو» فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة!!! ولا هو مأثور أيضا عن أحد من الأمة، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم، وإنما لهـج به قوم من ضلال المتأخرين!!!. فأما ذكر «الإسم المفرد» فلم يشرع بحال وليس في الأدلة الشرعية ما يدل على استحبابه وإنما الغرض بيان حكم ذكر الإسم وحده من غير كلام تام، وقد ظهر بالأدلة الشرعية أنه غير مستحب».
بعد هذا يذهب إلى قياس الأدنى وتوظيفه في غير محله، معتبرا أن ذلك يدخل ضمن الأدلة العقلية الذوقية في نظره! إذ يرى « أن الإسم وحده لايعطي إيمانا ولا كفرا ولا هدى ولا ضلالة ولا علما ولا جهلا وقد يذكر الذاكر إسم نبي من الأنبياء أو فرعون من الفراعنة أو صنم من الأصنام، ولايتعلق بمجرد إسم حكم إلا أن يقرن به مايدل على نفي أو إثبات أو حب أو بغض وقد يذكر الموجود والمعدوم».
وهذا قياس فاسد لايليق بمقام الذكر بل ينافي الذوق والعقل والشرع أولا وأخيرا. لكنه لكي يدعم هذا القياس ينتقل إلى تحكيم اللغة العادية والعامية - أقصد بها عامة العربية- في النص الديني فيقول، «ولهذا اتفق أهل العلم بلغة العرب وسائر اللغات على أن الإسم وحده لا يحسن السكوت عليه ولا هو جملة تامة ولا كلاما مفيدا، ولهذا سمع بعض العرب مؤذنا يقول أشهد أن محمدا رسول الله، (بنصب رسول) فقال فعل ماذا؟! فإنه لما نصب الإسم صار صفة والصفة من تمام الإسم الموصوف. فطلب بصحة طبعه الخبر المفيد، ولكن المؤذن قصد الخبر فلحن.» بل ذهـب الانجراف التضييقي به والتكلف الفتوي إلى أن قال : « ولو كرر الإنسان إسم «الله» ألف ألف مرة لم يصر بذلك مؤمنا ولم يستحق ثواب الله ولا جنته...».
وهذه عثرة من عثرات ابن تيمية في فتاواه إذ لكل جواد كبوة، فالفتوى فيها تضييق لمجال الذكر وبعده التوحيدي. كما أنها تتضمن إقصاء واضحا لروح التعامل مع الدين ألا وهو مبدأ النية في الأعمال. وبالتالي إقصاء لمفهوم الحب الإلهي. ودلائله، لأن القاعدة : « من أحب شيئا أكثر من ذكره» وحيث أن الذاكر ركز على تكرار إسم «الله». فإنه لولا حبه إياه وإيمانه به لما استطاع الاستمرار في ذكره إلى مستوى العدد الذي ذكره ابن تيمية فرضا. مع العلم أن الحكم بالإيمان قد اعتبره الرسول صلى الله عليه وسلم بمجرد الإماءة أو الإشارة للتوحيد بالأصبع أو رفع البصر إلى أعلى مع نفي الجهة والعلو المكاني عن الله تعالى وإنما التعبير عن علو الذات يتم بالإشارة إلى الفوق مجازا.
وبهذا كان حكمه صلى الله عليه وسلم بالإيمان للجارية لما أشارت إلى السماء. فقد انكشف به أيضا إذ ظهر أن لاسبيل للأخرس إلى تفهم علو المرتبة إلا بالإشارة إلى جهة العلو، فقد كانت خرساء كما حكي. وقد كان يظن بها أنها من عباد الأوثان ومن يعتقد الإله في بيت الأصنام فاستنطقت عن معتقدها فعرفت بالإشارة الى السماء أن معبودها ليس في بيوت الأصنام كما يعتقده أولئك.
بالإضافة إلى هذه التجاوزات التي تخبطت فيها فتوى ابن تيمية حول تضييق موضوع ذكر الله تعالى وإقصاء الإسم المفرد «الله» من دائرته يوجد تجاوز صارخ لنصوص شرعية دالة على جواز الذكر بالإسم المفرد «الله» وتكراره دلالة صريحة أعرض لنموذجين منها كلاهما صريح وصحيح ثابت على شرط المحدثين :
روى مسلم عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تقوم الساعة حتى لا يقال الله الله»، وفي رواية أخرى : « لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله». وأخرج الإمام أحمد في الزهد عن ثابت قال : «كان سلمان في عصابة يذكرون الله فمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا، فقال ما كنتم تقولون ؟ قلنا نذكر الله الله. قال : إني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها، ثم قال : الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم».
وهذان الحديثان فيهما الكفاية اللازمة لدحض آراء أصحاب الاتجاه التضييقي في تعاملهم مع النصوص الدينية وإسقاطاتهم اللغوية العفوية على المفاهيم التعبدية وأبعادها التوحيدية.
إذ أنهما يتضمنان الأحكام التالية لا على سبيل الحصر:
أ) مشروعية الذكر بالإسم المفرد «الله» واستحبابه بل ضرورته. وذلك لأن الحديثين جاءا في معرض مدح الذاكرين بهذا الإسم دون أن يضيفوا إليه كلاما يتم معناه حسب زعم ابن تيمية ، بل ورد في كلي الحديثين مكررا للدلالة على أن المقصود منه تكرار اللفظ للعبادة والتقرب إلى الله لا للإجابة عن شرط أو استفهام أو ما إلى ذلك مما يريد أن يعلل وروده ابن تيمية كما في قول الله تعالى : «قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون».
كما أن الحديثين فيهما دلالة على استحباب توظيف هذا الذكر على مستوى فردي أو جماعي في مجالس الذكر وحلقه. كما نصت عليها أحاديث أخرى.
ب) يتضمن الحديثان أفضلية الذاكرين لله بالإسم المفرد. وأنهم ما داموا موجودين على الأرض وخاصة في حديث أنس فإن الإنسانية تكون في أمان واطمئنان من قيام الساعة المباغث.... إذ يكون وجودهم علامة على وجود الصالحين وهذا يتعضد بحديث آخر يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس« أو»شرار الخلق» حسب رواية مسلم.
ج) إن اسم « الله» فيه الدليل والمدلول وهو لايحتاج إلى من يكمله بالفعل أو النعت أو الإضافة، بل هذه المكملات في اللغة المتداولة لا تكمل إلا به، إذ لولاه لما كان فاعل ولا فعل ولا مفعول ولا نعت ولا منعوت ولا مضاف ولا مضاف إليه.
وهو بهذا المعنى التوحيدي الخالص لا يخضع للغة العادية وتراكيبها، لأنه فوق اللـغة واشتقـاقـاتها واشتراكاتها، إذ الأسماء الأخرى قد تعرف اشتراكات لفظية مجازية دون الاشتراك المعنوي والحقيقي بين أسماء الله وبعض أسماء مخلوقاته. ولهذا تحتاج إلى تمييز مجازا أيضا. وإلا فاللفظ يحمل معناه بحسب نية وتوجه قائله.
أما إسم «الله» فهو كما ذهب إليه بعض المفسرين لا يعرف اشتقاقا في اللغة أواشتراكا لفظيا. لهذا فهو غير محتاج إلى من يدل عليه كما أنه لا أحد يسمى باسم الله في هذا الوجود إلا الله سبحانه وتعالى. ولهذا فحينما يذكر إسم الله لايخطر في الذهن أو القلب إلا هو كما أنه ضمنا تعود إليه كل الأسماء والمعاني التوحيدية. إذ التركيز على ذكر هذا الإسم هو في نفــس الــوقت إثبـات للوجـود وللـوحدانية، وللتفـرد ومخالفة الحوادث، وفيه تحقيق للعبودية وإخلاص المحبة له من طـرف الذاكر. فإسم «الله» هو أسمى الكلمات والمعاني وهو الذات التي لا يتسمى أحــد من المخلوقـات باسمها وهو هو « الأول والآخر والظاهر والباطن» لا معبود سواه.
ولهذا المعنى التوحيدي الذي يفيده إسم «الله» عند ذكره فإنه عند التعبير بأفضليته لم يورده الشرع متبوعا بالمفضول. وإنما أورد الاسم مقصد التفضيل وأسند إلـيه اسم التفضيل دون اعتبار المفضول وذلك في قول الشارع : « الله أكبر». فأكبر على صيغة إسم التفضيل. والقاعدة العادية في هذا الباب تقول بأن « إسم التفضيل صفة تؤخذ من الفعل لتدل على أن شيئين اشتركا في صفة وزاد أحدهما على الآخر فيها. وقد يكون التفضيل بين شيئين في صفتين مختلفتين فيراد بالتفضيل حينئذ ان أحد الشيئين قد زاد في صفته على الشيء الآخر في صفته.
وقد يستعمل إسم التفضيل عاريا عن معنى التفضيل لكنه مع ذلك يسند إلى أشخاص يشتركون في مقارنة ما كقـولك « أكرمت القوم أصغرهم وأكبرهم».
وهذه القواعد اللغوية لا تنطبق على قولنا «الله أكبر» إذ التساؤل حول «أكبر ممن؟» في هذا المقام غير وارد لأنه لا مقارنة في هذه الصفة بين الخالق والمخلوق، ولهذا أقصي المخلوق من المقارنة لدفع أي تشبيه أو تقدير أو مقايسة. فالله أكبر لا نهاية لذاته ولا حد لها، ولايشبه ذاته أي مخلوق في أي شيء مهما تسامت أو دقت بنية هذا المخلوق ووظيفته، إذن فالمفضول في هذا التفضيل لا وجود له ولا مكان لاعتباره لعلو مقام التفضيل بحسب علو ذات الفضيل الأفضل، وبهذا المعنى التوحيدي كان ذكر «الله أكبر». كلاما كاملا رغم أنه يتخطى القواعد اللغوية العادية في إسم التفضيل لأنه مرتبط بالإسم الذي هو فوق الاشتقاق وفوق النعت والإضافة. وهذا مما لم ينتبه إليه ابن تيمية رغم أنه استشهد بهذه الكلمة «الله أكبر». للدلالة على رفضه الذكر بالإسم المفرد «الله». إذ أن الكلمة تنقض فتواه في مهدها ومن أساسها كما أنها لم ترد في نهاية سياق أو كلام سابق وإنما التعبير بها يكون ابتداءا لا جوابا ولا بيانا لشرط أو ثنيا أو مبتدإ أو تكميلا لجملة ومعناها.
وإذا كانت هذه المعاني قد فهمناها بحسب معطيات النص وصريح ظاهره و أيضا بحسب ذوقنا العملي ومزاولتنا الشخصية للذكر بالإسم المفرد أو المجرد على يد شيخنا سيدي حمزة القادري بودشيش تلقينا، فإننا قد نجد توافقا بيننا وبين ما ذهب إليه الشيخ محيي الدين بن عربي بسبب وحدة المشرب واتصال السند، وذلك بأسلوبه الفقهي والذوقي الصوفي، نورد بعض مقتطفات أقواله في هذا المقام، خاصة وأن ابن تيمة يعد من أشد المعارضين والمتحاملين عليه لنتبين الفرق بين الأسلوبين علما وذوقا وأخلاقا، حيث يقول في الفتوحات المكية: "كل ذكر مقيد لا ينتج إلا ما تقيد به لا يمكن أن يجني منه ثمرة عامة، فإن حالة الذكر تقيده، وقد عرفنا الله أنه ما يعطيه إلا بحسب حاله في قوله "إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" الحديث، فلهذا رجحت طائفة ذكر لفظة "الله" وحدها أو ضميرها "هو". من غير تقييد، فما قصدوا اللفظة دون استحضار ما يستحقه المسمى، وبهذا المعنى يكون ذكر الحق عبده بإسم عام لجميع الفضائل اللائقة به فتكون في مقابلة ذكر العبد ربه بالاسم "الله"، فالذكر من العبد باستحضار والذكر من الحق بحضور لأنا مشهودون له معلومون، وهو لنا معلوم لا مشهود، فلهذا كان لنا الاستحضار وله الحضور، فالعلماء يستحضرونه في القوة الذاكرة والعامة تستحضره في القوة المتخيلة، ومن عباد الله العلماء بالله من يستحضره في القوتين، يستحضره في القوة الذاكرة عقلا وشرعا وفي القوة المتخيلة شرعا وكشفا، وهذا أتم الذكر لأنه ذكره بكله، ومن ذلك الباب يكون ذكر الله له، ثم إن الله ما وصف بالكثرة شيئا إلا الذكر، وما أمر بالكثرة من شيء إلا من الذكر، قال: «والذاكرين الله كثيـرا والذاكـرات» وقال:
« واذكروا الله ذكرا كثيرا»وما أتى الذكر قط إلا بالإسم "الله" خاصة معرى عن التقييد فقال : "اذكروا الله" وما قال بكذا، وقال: "ولذكر الله أكبر" ولم يقل بكذا، وقال: "اذكروا الله في أيام معدودات" ولم يقل بكذا، وقال: "اذكروا اسم الله عليها" ولم يقل بكذا، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله»، فما قيده بأمر زائد على هذا اللفظ لأنه ذكر الخاصة من عباده الذين يحفظ الله بهم عالم الدنيا وكل دار يكونون فيها، فإذا لم يبق في الدنيا منهم أحد لم يبق للدنيا سبب حافظ يحفظها الله من أجله، فتزول وتخرب، وكم من قائل "الله" باق في ذلك الوقت ولكن ما هو ذاكر بالاستحضار الذي ذكرناه، فلهذا يعتبر اللفظ دون الاستحضار: «وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا» لأنهم لم يسمعوا بذكر شركائهم واشمأزت قلوبهم، هذا مع علمهم بأنهم هم الذين وضعوها آلهة، ولهذا قال:" قل سموهم" فإنهم إن سموهم قامت الحجة عليهم فلا يسمى الله إلا الله".
وحينما نتعقب فتاوى ابن تيمية نجده يوظف نفس الاسلوب الذي أفتى به في الذكر بالاسم المفرد "الله" في اعتراضه على الذكر بالاسم المضمر "هو" نورد بعض أقوالَه مختصرة في هذا المجال، حيث تتبين خطورة هذا المنحى السلبي في نظرنا والذي سلكه ابن تيمية بدون تحفظ يقول: «والذكر بالإسم المضمر ابعد عن السنة وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان، فإن من قال: "ياهو ياهو، أو هوهو، ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا إلا إلى مايصوره قلبه، والقلب قد يهتدي وقد يضل».
ويقول بعدما انتهى من اعتراضه على الذكر بالإسم المفرد "الله":«وأبعد من ذلك ذكر "الإسم المضمر". وهو "هو" فإن هذا بنفسه لا يدل على معين وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم، فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته، ولهذا قد يذكر به من يعتقد أن الحق الوجود المطلق، وقد يقول: "لاهو إلا هو" ويسري قلبه في وحدة الوجود، ومذهب فرعون والإسماعلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين، بحيث يكون قوله:"هو" كقوله:"وجوده" وقد يعني بقوله:"لاهو إلا هو" أي أنه هو الوجود، أنه ما تم خلق اصلا. وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد، كما بينته من مذهب الإتحادية في غير هذا الموضع».
ويبدو الخلل واعتلال فتاوي ابن تيمية هاته من الجوانب التالية:
أ- إسقاط مفهوم البدعة على ما له أصل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى،«هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون، هو الله الخالق البارئ المصور، له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم».
إذ "هو" يتكرر في سياق الآية كلها للتاكيد على أنه اسم ضمير يعود على ذات الله وصفاته، وقد جاء في جملة من الآية بضمير وحده غير مقترن باسم الذات أو الصفات. لأن السياق هو الذي يحدد معناه ومقتضاه، وذلك عند قوله تعالى "له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض" الآية.
ثم إن "هو" إسم ضمير يتضمن حرفين من القرآن الكريم يجازى العبد بقرائته على كل حرف بعشر حسنات كما ورد النص النبوي الصحيح بذلك.
ب -الحكم بالظن على ظن الذاكر في قوله "ياهو" أو "هوهو"، والله تعالى يقول: «ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم»، واي إثم أشد على المسلمين من إساءة الظن بمعتقداتهم وبدون قرينة واضحة وبينة؟.
ج- عدم اعتبار القرائن والسياق الذي يأتي فيه الذكر بالإسم المضمر "هو" لأن الذاكر إذا كان يقول : "لا إله إلا الله" ثم يقتصر على قوله "الله الله" وبعد ذلك يقول "هوهو" فبحكم السياق والقرائن ومقتضيات العقل والسلوك يكون الضمير عائدا ضرورة على الله تعالى.
د- القول بأن " القلب قد يهتدي وقد يضل" لا معنى له كذريعة لمنع الذكر بالإسم المضمر، إذ الذين تطمئن قلوبهم بذكر الله تعالى قد يصبح الثبات هو السمة الغالبة على قلوبهم واستقرار عقيدتهم «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» كما أن اللسان رغم خفته ولحميته قد يصبح رطبا من ذكر الله تعالى مستقرا على ألفاظه، وهو دليل القلب في غالب الأحيان.
هـ- قول ابن تيمية:"فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته" يناقض آخره أوله، لأنه إما أن نسلم للناس في نواياهم بحسب أعمالهم، وإما أن نتعقب أنفاسهم ونسيء الظن بهم ونمنعهم من أعمالهم بحسب سوء ظنوننا بهم،و هذا الأخير هو الغالب على مظاهر فتوى ابن تيمية.
ومن هنا كاعتراض على هذا المسلك نقول بأنه لا يجوز أن نتحكم في النوايا أو أن نمنع الناس من القيام بأعمال غير ممنوعة شرعا عبارة أو نصا باتهام نواياهم ومصادرتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر»أو كما قال، وفي حديث آخر عن جابر قال: «قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: أمرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم قرأ "إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر"
إذن فقصد المتكلم ونيته لا يعلمها إلا الله. فربما يرى شخص على هيئة سجود فيظن به أنه ساجد لله بينما يكون مجرد منبطح أو مستريح أو قد يكون ساجدا لحائط أو شيطان يتخيله، فيكون بحسب منطق ابن تيمية وتداخل النوايا في هذه الحالة من الواجب أن نمنعه من السجود مطلقا لأن شخصا سجد لغير الله من مخلوقاته، وبهذا الأسلوب يكون علينا أن نتعقب كل الساجدين ونفحص أو نشق قلوبهم لنتبين لمن سجدوا هل لله أم لغيره من مخلوقاته، كما أنه بحسب وهم ابن تيمية ينبغي أن نمنع الناس من استلام الحجر الأسود خوفا من أن يصبح معبودا عند بعض المهووسين والمختلين، وكذلك يمنع الطواف حول الكعبة أو التوجه نحوها لهذا الظن المريض أيضا.
ومن هذا المنطق المختل والمهوس كان غلو كثير من المتشددين في غير الدين ومقتضى أحكامه السليمة ممن سلكوا هذا الأسلوب على غير ضوابط شرعية وأخلاقية في هدم الأضرحة والمعالم الدالة على الصالحين والأولياء، بل قد يطال حتى معالم الأنبياء لو وجدوا إلى ذلك سبيلا، وهذا هو عين الابتداع والغلو في غير مصلحة الدين ما أنزل الله به من سلطان.
ومن هذا الفهم الضيق أيضا يكون علينا أن نتعتب ماذا يقصد المقسم بقوله "والذي نفسي بيده" إذ القلب قد يضل وقد يهتدي في باب الضمائر حسب رأي ابن تيمية، ويبقى لدينا التكلف في فهم المفهوم تساؤلا من هو "الذي" وعلى من تعود الهاء كضمير في هذا الخطاب، إذ المسمى ذاتا وصفة غير وارد في السياق، فيبقى فحوى الخطاب بحسب نية قائله، ونحن إذا أسأنا ظننا بقائله فلنمنعه حسبب رأي ابن تيمية من هذا القول، بينما النص النبوي صريح وصحيح في هذا الباب وهو القسم بالضمير "هو" الذي يعود على الإسم الموصول و"الذي" يعود على ذات الله وصفاته من بيده نفوس عباده.
ويكفي الضمير "هو" شرفا على مستوى النحو واللغة والرمز والعدد أنه لا يدل إلا على الواحد وهو غاية الدين وبه يتوحد قلب العبد في تحديد خطابه وقصده:
"هو الله الذي لا إله إلا هو"
وفي هذا السياق وما تضمنه من المعاني أورد مقتطفات للإمام فخر الدين الرازي حول الهوية يقول فيها «اعلم أن لفظ "هو" فيه أسرار عجيبة وأحوال عالية، فبعضها يمكن شرحه وتقريره وبيانه، وبعضها لا يمكن قال مصنف الكتاب: أنا بتوفيق الله كتبت أسرارا لطيفة إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة والسعادة عند ذكر كلمة "هو" أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيرا. فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيرا عجيبا في القلب لا يصل البيان إليه، ولا ينتهي الشرح إليه» ثم بعد هذا يذكر فوائد الذكر بالهوية قد وصلت إلى إحدى عشرة فائدة، نذكر من بينها على سبيل الاختصار والإختيار الفائدة الثالثة والخامسة والحادية عشر.
فيقول في الفائدة الثالثة: "أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقا في معرفة الله تعالى، لأنه إذا قال "يارحمان" فحينئذ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها، فيكون طالبا للحصة، وكذلك إذا قال: "ياكريم، يا محسن، ياغفار، يا وهاب، يا فتاح" وإذا قال "ياملك" فحينئذ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئا منها، وقس عليه سائر الاسماء أما إذا قال "ياهو" فإنه يعرف أنه "هو"، وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره البتة فحينئذ يحصل في قلبه نور ذكره، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله، وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل…
والفائدة الخامسة في هذا الذكر: "أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله تعالى، والشوق إلى الله ألذ المقامات وأكثرها بهجة وسعادة، إنما قلنا أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله، وذلك لأن كلمة "هو" ضمير الغائب، فالعبد إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق لم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان والجهة، وإنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث والإمكان، ومعيوب بعيب الكون في إحاطة المكان والزمان، فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة وعلم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات فعند هذا يعلم أن كل المحدثات والإبداعات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه وتعالى، وعرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان والكمال والحاجة والاستغناء.
فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحدثات، واعتقد أن تصوره غائب عن العقل والفكر والذكر. فصارت تلك الكمالات مشعورا بها من وجه دون وجه، والشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها ومراتبها، وإذا كان لا نهاية لتلك المراتب والدرجات فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق، وكلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان أسهل كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، فثبت أن لفظ "هو" يفيد الشوق إلى الله تعالى، وإنما قلنا إن الشوق إلى الله أعظم المقامات، وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة، لأن بقدر ما يصل يلتذ وبقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم. والشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ والابتهاج والسرور، وذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات، فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة "هو" تورث الشوق إلى الله، وثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات وأكثرها بهجة وسعادة فيلزم أن يقال: «المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسمى الدرجات».
الفائدة الحادية عشرة: «إن الذكر أشرف المقامات قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: "إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه". وإذا ثبت هذا فنقول: أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: "من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين".
إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: العبد فقير محتاج والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولا على السؤال، فإذا قال الفقير للغني "يا كريم" كان معناه أكرم، وإذا قال له "يا نفاع" كان معناه طلب النفع، وإذا قال "يارحمان" كان معناه ارحم فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خاليا عن السؤال والطلب، أما إذا قال "ياهو" كان معناه خاليا عن الإشعار بالسؤال والطلب فوجب ان يكون قولنا "هو" أعظم الأذكار .ويضيف الرازي مبينا خصوصية هذا الذكر بالقول «ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كان يقول: "لا إله إلا الله" توحيد العوام، و "لا إله إلا هو" توحيد الخواص، ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان.
أما القرآن فإنه تعالى قال: "ولا تدع مع الله إله آخر لا إله إلا هو" ثم قال بعده "كل شيء هالك إلا وجهه" معناه إلا هو. فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة.
وأما البرهان فهو أن من الناس من قال: إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها.
فقلت، فالوجود أيضا ماهية، فوجب أن لا يكون الوجود واقعا بتأثيره، فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوما مغايرا للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل، وإن كانت مفهوما مغايرا فذلك المفهوم المغاير لا بد وأن يكون له ماهية، وحينئذ يعود الكلام، فثبت أن القول بأن المؤثر لا تاثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر، وينفي الصنع والصانع بالكلية، وذلك باطل، فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات، فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيات ماهيات وصارت الحقائق حقائق، وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت وعند هذا يظهر صدق قولنا "لا هو إلا هو". والله أعلم».
وفي استعراضنا لهذه التفسيرات المستنيرة بالذكر من طرف بعض الراسخين في علمي الظاهر والباطن من الشريعة الإسلامية، وذلك من خلال أقوالهم عن مشروعية الذكر بالإسم المفرد "الله" أو الإسم المضمر "هو" فإننا نسعى إلى أن نبين بالحجة العلمية الموثقة وعلى مستوى النص التراثي وتفسيراته للنص الديني في عبارته ومعناه ما هو مستوى التمايز والامتياز الذي يحظى به أهل الفكر المستنير بالذكر والذوق وسعة التدقيق على أهل التشديد والتضييق في رياض التحقيق، ويبقى للقارئ وطالب الحقيقة أن يوازن ويقارن بعين الصدق والاستبصار ومن ثم يدرك ما هو الأولى شرعا في الاعتبار.
كما أن هذا الذكر يمتاز بالخصوصية كما عبر عنه كل من الغزالي وابن عربي والرازي وغيرهم من أقطاب العلم والمعرفة في هذه الأمة، ولهذا فهو يحتاج لمريد الذكر به إلى فقه الأذكار وبالتالي فلا بد له من فقيه خبير في ميدانه له الخصوصية في الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المجال على مستوى الظاهر والباطن واستعداداته لتقبل أنوار الأذكار، وهذا الفقيه هو ما يعبر عنه الصوفية بالشيخ المربي أو الملقن، وهو مصطلح أيضا شرعي وسني نشأة ومعنى، ظهر في صدر الأمة الإسلامية ولقب به من هم في أعلى المستويات رجالها شخصية وعقيدة وسلوكا.
وهذه الخصوصية الفقهية في علم الذكر وأهله سبق وتحدثنا عنها في كتاب "الطريقة القادرية البودشيشية: شيخ ومنهج تربية" فليرجع إليه من يريد زيادة اطلاع.
إن هذا المنحى في التعامل مع العبادات التي تدخل في حكم النوافل وخاصة ذكر الله والدعوات، قد أثر سلبا على أغلب الاتجاهات الإسلامية المتشبثة بالطرح التيمي وهو ما انعكس على سلوكاتها بل على روحانياتها مما أضفى عليها طابعا جافا وتقحلا وجدانيا، بل غياب تواصل معنوي بينها وبين روحانية رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدر الأسوة الحسنة كما سنرى. وذلك لأنها تتعامل مع النصوص الشرعية من وجهة نظر عقدية ضيقة ومن وجهة إطلاع ناقص على النصوص نفسها والمفيدة لطرق التعامل مع ذكر الله تعالى. وهذا في نظرنا من بين أسباب الاختلافات بين الفئات الإسلامية المعاصرة وعدم تناسقها. لأنها تفتقد الوحدة الوجدانية والتعارف الروحي الذي يؤسسه الذكر. وكذلك التمكين العلمي المفيد للوعي العميق بأبعاد الشريعة الإسلامية وروحها.
وهكذا غيب دور الذكر في توحيد العقيدة والأشخاص والسلوك بين جانب الإفراط وجانب التفريط، مما اقتضى التذكير بهذا الدور وتحديد أبعاده وشروط تحقيقها.
التأصيل الشرعي
للبعد التوحيدي للذكر
إن اختيارنا لعنوان هذا الكتاب بالتركيز على البعد التوحيدي للذكر في الإسلام لم يكن اختيارا ذاتيا أو ذوقيا محضا وعاطفيا وإنما هو مؤسس على قاعدة شرعية قطعية الثبوت والدلالة والمتجلية في آية الأسوة الحسنة الواردة في سورة الأحزاب. يقول الله سبحانه و تعالى فيها « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا».
فالآية رغم قلة كلماتها جمعت إعجازا بيانيا وعرضا كاملا لعلم التوحيد بكل عناصره العقدية والتعبدية والسلوكية الظاهرية والباطنية كما أنها تمثل أصلا كبيرا في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله».
ولهذا كان احتجاجنا على بعض المتعاملين مع الآية من باب الإختصار أو الإقتصار على بعض مفرداتها دون عرضها كاملة حتى تؤدي وظيفتها التي أرادها الله منها.
فبنية هذه الآية لا تحتمل التقسيم ولا تحتمل التعتيم المذهبي والخيارات الشخصية في التعامل معها، لأن أي مساس في بنيتها هو مس في وظيفتها. وكل مس في وظيفتها هو فقدان الوعي بأبعادها، ومن ثم سيكون التعامل معها من باب التفسير بالرأي والهوى، وهذا هو المنهي عنه شرعا والمستهجن عقلا وذوقا.
وقد تضمنت هذه الآية عناصرها في بنيتها النصية ظاهرة جلية يمكن تحديدها في التالي :
أ) التأكيد التحقيقي:
وصياغتنا لهذا العنصر مؤسسة على أن الآية مصدرة بحرفين من حروف التوكيد كل له قوته في التدليل على أن الآتي فيما بعد هو شيء محقق وقطعي وليس ظنيا فرضيا أو قابلا للتأويل والمزايدة اللفظية.
فاللام المؤكد بها قد يمكن اعتبارها لام الابتداء « ومن العلماء من يجعل اللام الداخلة على الماضي في هذا الباب لام قسم، فالقسم عنده محذوف ومصحوب اللام جوابه» ومع ذلك فقد يتكامل المعنى باعتبار اللامين لهما وظيفة توكيدية إذ أن أهم فوائد لام الابتداء هو توكيد مضمون الجملة المثبتة ولذا تسمى « لام التوكيد» وإنما يسمونها لام الابتداء لأنها في الأصل تدخل على المبتدأ أو لأنها تقع في ابتداء الكلام.
ولام القسم هي التي تقع في جواب القسم تأكيدا له، والجملة بعدها جواب القسم مقدرا. كما يذهب إليه بعض النحويين وخاصة في تفسير آية الأسوة الحسنة...
وأما قد فتختص بالفعل الماضي والمضارع المتصرفين المثبتين، ويشترط في المضارع أن يتجـرد من النواصب والجوازم والسين وسوف ويخطىء من يقول : « قد لايذهب وقد لن يذهب». ولا يجوز أن يفصل بينها وبين الفعل بفاصل غير القسم، لأنها كالجزء منه. أما بالقسم فجائز نحو « قد والله فعلت». وهي إن دخلت على الماضي أفادت تحقيق معناه. وإن دخلت على المضارع أفادت تقليل وقوعه، وقد تفيد التحقيق مع المضارع إن دل عليه دليل» إلى غير ذلك من أحكام هذا الحرف.
فالآية إذن جمعت كل مصادر التوكيد وأسبابها الظاهرة والمقدرة كما أن اللام فيها احتملت معنى حرفين في آن واحد. حرف الابتداء وحرف القسم بالإضافة إلى قد للتحقيق، هذا مع ربط الابتداء بالانتهاء مما سيعطي لنا توكيدا آخر وهو اعتبار بداية الآية جواب شرط مقدم على الشرط لغاية محورية عليا كما سنرى.
ب) الإستمداد الجماعي من الواحد:
ويفيد هذا المعنى قول الله تعالى «لكم في رسول الله»، فكلمة «لكم» تقتضي أن يخضع الكل إلى قاعدة موحدة توحد ذلك الكل المجزأ في كل موحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك كما عبر عنه البصيري في البردة بقوله
وكلهم من رسول اللـه ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
إذ وحدة الأمة لايمكن أن تتحقق إلا بهذا التركيز الكلي على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لكي تتحقق الأسوة الموحدة ومن ثم يكون الواحد هو صورة للجميع وانعكاس عليهم انعكاس عقيدة وعبادة وسلوك.
وقد شخص لنا القرآن الكريم ثمرة هذا التوجه وهذا الجمع في الوحدة في سورة الفتح، إذ لا فتح إلا من هذا الطريق حيث يقول الله تعالى «محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما».
إذ الواحد اتحدت بمعناه الجماعة فأصبحت نسخة منه ومن ثم أصبحت الجماعة مصدرا للاقتداء والأسوة السابق منها يعكس على اللاحق إلى يومنا هذا... وهو ما بيناه في السابق.
ج) القدوة المستحقة بوحدانية الاضافة :
وتتجلى هذه الاضافة ذات الطابع التوحيدي، في قول الله تعالى : «رسول الله» وهذا يعني أن لاقدوة إلا وهي ذات بعد توحيدي عقدي مرتبط بالله تعالى. وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستحق درجة القدوة إلا بهذه الإضافة أي استمداده لأصول القدوة وآثارها من الاذن الإلهي ودعمه بالوحي والإرسال والتربية والتأديب كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أدبني ربي فأحسن تأديبي». ومن هنا يكون مصدر القدوة هو الله تعالى، وتشخيصها يتجلى في رسول الله صلى الله عليه وسلم الواسطة الظاهرية والباطنية الواصلة بين اقتداء العبد بربه وفهمه عنه خطابه وتكليفه وأمره ونهيه ورضاه وغضبه...ومن هنا جاء الخطاب الالهي دالا على هذا التعدي الذي يمثله الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. في قول الله تعالى : «من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا»
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق