من أقوال سيدي حمزة بن العباس القادري البودشيشي

من أقوال سيدي حمزة بن العباس القادري البودشيشي 
حقيقة التصوف إصلاح
إن تصوف الحقيقة قد ولى زمانه ، والمطلوب اليوم إصلاح الخلائق ، لا إطلاق الحقائق.
فضائل القرآن الكريم
طريقتنا مبنية على الكتاب والسنة: (وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). 
إن الخير كله في القرآن الكريم والعز كله في القرآن الكريم والحفظ كله في القرآن الكريم.
لا أدفع للشرور والمصائب، والغلاء والبلاء من تلاوة القرآن الكريم.
يكفي أن يكون العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ليستوجب حفظ القرآن الكريم، فهو بداية العلم ونهايته.
التمسك بالشريعة الإسلامية
طريقتنا هي طريق الكمال المحمدي والسر الرباني، ولا يحفظ أنوار السر سوى التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حسب الاستطاعة ومقتضى العصر-فما شاد أحدكم الدين إلا غلبه فسددوا وقاربوا- كما قال صلى الله عليه وسلم.
العلم نور وحجاب
تعلموا العلم وعلموه للفقراء ، ولا تقفوا مع علمكم ، لأنه وسيلة لمعرفة ربكم ، لا زي يقتنى ، ولا حلية يتزين بها في المناسبات أو تتخذ للمماراة والمراآة ، إلا صار حجابا. وهو حجاب نوراني ، والحجب النورانية أشد ، لأن إزاحتها عن القلب أعسر من الحجب الظلمانية .
وحكى عن شيخه سيدي أبي مدين أنه رضي الله عنه يقول: لمذنب غارق في ذنوبه منكسر قلبه، أحوله إلى سبيكة من ذهب، أهون علي  من متعلم معجب بنفسه مزهو بمعارفه، لا يستفيد ولا يفيد.
فضائل العلوم الشرعية ودور الزوايا في حفظها
وينوه بالعلماء الذين أخد منهم: بدقة حفظهم، وسرعة بديهتهم واستحضارهم، وحسن فهمهم، وغيرتهم على الدين، وفرارهم من مباهج الدنيا وفتنها.
وينوه أيضا بالكتب الدينية القديمة: لأنها أمهات الكتب وبها تعلم فطاحل العلماء وتخرجت أمم وفيها بركة السلف الصالح.
كانت مهمة الزوايا بالمغرب قديما الحفاظ عن العلم النبوي حتى لا يندثر ، والتعاون على العمل به حتى ينمو وينتشر.






الاجتهاد في العبادات
لقد ربانا شيخنا سيدي أبي مدين على الاجتهاد ، وترك الكسل والبطالة.
ويحكي رضي الله عنه حكاية وقعت له مع شيخه في بداية سيره : ذلك أن سيدي أبي مدين كان يكره أن يرى مريديه خارج منزلهم ما بين العشاءين ، وكان يحثهم على الجلوس للذكر في هذا الوقت خصوصا ، وكان سيدي حمزة كلما جلس وشرع في اسم الجلالة " الله " ، أضاءت عليه الغرفة نورا. فانزعج لذلك ، وخرج ليروح منه ، فإذا بسيدي مدين وكأنه ينتظره ، وناداه في الظلمة : من هناك؟ أهو حمزة؟ فقال نعم سيدي. فقال لماذا خرجت في هذه الساعة؟ فحكى له ما رأى. فقال : إن كان هذا فأمر آخر. هذا خير إن شاء الله ، وبعدما بين له معنى ذلك التجلي ، أمره بالعودة إلى خلوته ، ومتابعة ذكره ، ن ما رآه علامة الرضا والقبول .
وقال رضي الله عنه في حق شيخه : ما رأيت أعبد منه ، ولا أكثر اجتهادا ومحبة لأمور الآخرة ، وكنت أنا وأبي سيدي عباس أكثر الفقراء خدمة له والتصاقا به فنلنا -والحمد لله- من اجتهاده حظا وفيرا.
من لا يزيد فهو في نقصان ، والقناعة من الله حرمان فلا تقتنعوا بشيء غير وجهه الكريم .
إياكم وصحبة الغافلين فإن صحبتهم تورث البطالة قال تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا.
العمل والقبول :
العبرة بالقبول ، والقبول من الله عز وجل . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون.
فضائل الذكر والصحبة :
إذا أردت أن تسمو أخلاقك ، وتصفو أذواقك ، وتهيج أشواقك ، فعليك بذكر الله وصحبة الصالحين المحبين والتأدب معهم.
التصوف أخلاق وأذواق وأشواق.
الذاكر إذا تجوهرت روحه بأنوار ذكر الله ، هاجت في قلبه لواعج المحبة ، فلا يقر له قرار ، ولا يمسه نصب ولا يعتريه ملل ، ولا يقهره عطش ، ولا يصده نوم ، ولا يثنيه هم ، ولا يعبأ بقيل وقال ، ولا تفتر همته دنيا ولا مال ، ولا تشغله تجارة ولا عيال ، ولا راحة له ولا مقيل ، إلا في رحاب ضرة حبيبه الجليل. ومن استدام على الحضور مع الله ، استمد من أنوار العظمة الإلهية ما يقيم في نفسه وازع الحياء ، ويوقد في قلبه أشواق بهاء الهيبة ، فيجد حلاوة الأدب مع الحق ، وبتذوق طعم حسن الخلق مع الخلق.
إذا وجدت من عمر بنور الله قلبه ، وأينعت بمحبة الرسول جنانه ، سقاك من سائغ المحبة ، ما أنار قلبك ونشط جوارحك لأفعال الخير وملازمة التقوى ، والاجتهاد في مقامات اليقين ، وإذا تعلقت بمن أظلم قلبه ، بغفوات الغفلة كان منك كنافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تستمد منه أحوالا منتنة وأفعالا مشينة ، فالطبع للطبع يسرق.
المحبة تقتضي المؤانسة ، والمؤانسة تقتضي المجالسة والمجالسة بداية الصحبة ، والصحبة سنة عند العموم ، فريضة عند الخصوص.
الصحبة أساس كل فلاح وصلاح ، والمحبة وقودها وادامها ، ولا يستمد المريد من أحوال شيخه إلا بقدر محبته له ، وامتثاله له ، وحقيقة الامتثال ما كان عن محبة صادقة خالصة لوجه الله تعالى.
مهمتي كما حددها أهل الله ، لا تعدو رأب صدع القلوب وسد شقاق وثقب الأواني المنكسرة فلا قيد ولا شرط.
لقاء أهل الفضل دليل على أن المراد بك خير ، ولو شاء الله ما دلك عليهم ولا يسر لك صحبتهم ، فمن أحبه الله يسر له لقيا أحبابه ، وألهمه صحبتهم واتباعهم.
ومن دعائه :اللهم لاقينا بمن هم أفضل منا وارحمنا بالمرحوم فينا.
الصحبة تزين ، والرفقة تشين.
صاحبت شيخي على شرط اتباع الكتاب والسنة ، فما تركني يوما أخل في سري ولا علانيتي ، فإن في العلانية زجرني ، وإن في السر وجدت أثر الغضب وربما الاغضاء في وجهه حين ألقاه ، فلا يزول حتى أزول منها توبة نصوحا.
بنيت الطريق بعد الصحبة على الإكثار من ذكر الله فهو مفتاح كل شيء ، وبدونه لا يكون من المريد شيء.
من أراد صلاح الدنيا فعليه بذكر الله كثيرا ، ومن رغب في فلاح الآخرة فعليه بذكر الله ، ولا يصلح الفقير إلا ذكر السر.
عليكم بذكر الله كثيرا واقصدوا به وجه الله ، لا حظوظ الدنيا ولا حقوق الآخرة تنالوا رضا الله ومن نال رضا الله ، نال مبتغاه.

علاقة المريد بالشيخ
علاقة المريد بالشيخ علاقة محبة في الله ورسوله ، والمحبة كالحليب أي شيء يسقط فيه يظهر فيه ، فيفسد منظره ، ويغير لونه ، و إذا تغير لونه لم يعد حليبا ، وإذا سقط فيه نجس من وسوسة شيطان أو حديث نفس ، فلا مجال من تطهيره ، فلا بد أن يلقى جانبا.
من آدب الطريق
عليكم بالأدب ، فلا يسلم من طريق القوم إلا من أغرق في بحر من الأدب ، وإياكم وأعراض الفقراء فإن لحوم الأولياء سم قاتل.
لاتزنوا أعمال الفقراء بميزانكم ، وغضوا الطرف واستروا العورات ، يستر الله عوراتكم ، فمن تتبع عورات أخيه لم يمت حتى يفضح الله عوراته.
من أراد الله به خيرا غيب عنه عورات المخلوقات وعيوبهم ، فلا يرى في الكون ومكوناته إلا الجمال ، فإن الخلق هم الباب والحجاب.
اشتغال العارفين بالله والأولياء الصالحين ، كله حول التحقق بعظمة خلق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : وإنك لعلى خلق عظيم.
الطريقة مثل المستشفى ، وأنتم الممرضون والشيخ هو الطبيب ، فاعفوا واصفحوا وارفقوا بعيال الله ، والخلق عيال الله.  
نحن في الطريقة نداوي ، لا نتشفى في المؤمنين.
وإياكم ثم إياكم أن تكفروا مسلما أو تشركوا مؤمنا أو تكرهوا خلق الله . فهذا مضرة لانهاية لها.
لا يبقى بعد المعرفة بالله إلا فعل الخير والمحبة في الله.
أدب الظاهر أدب أشباح ، وأدب الباطن أدب أرواح ، وشتان بين أدب نهايته المظاهر، وأدب أساسه تزكية الضمائر وصفاء الأسرار ، واستمداده من (هو الظاهر والباطن ، وهو بكل شيء عليم ).
لا تفضحوا أسرار الخلق ، ولا أسرار إخوانكم ، لما في ذلك من إذاية الخلق وسوء الأدب مع الحق ، ولو شاء الله لفضحهم دون واسطتكم ، ولكنه حكيم عليم.
مهمتنا أن نصلح الخلق لا أن نفضحهم.
التزاور والتراحم والتعاون
عليكم بفعل الخير وإن قوبل باللؤم ، أو ووجه بالظلم ، فإن الحق سبحانه يدافع عن الذين آمنوا لفعلهم الخير واقتراف أعدائهم الشر.
إن البر بالوالدين يؤتي أكله في الدنيا قبل الآخرة.
إن بركة الآباء والأجداد تعود على الأولاد والأحفاد.
كثرة الهم تشغل عن الله تعالى ، وتفت في عضد المؤمنين خصوصا المبتدئين الذين لم يذوقوا حلاوة الذكر ولم يعرفوا طعم فتوحاته.
فضائل النفقة في سبيل الله
ما عودني ربي إلا خير ، وما أعطيت درهما إلا ضاعفه أضعافا مضاعفة ، وما أنفقت من قليل إلا كثره الله أو قصدته في حاجة إلا قضاها.
من دعائه : الرحماء يرحمهم الله ، اللهم ارحمنا بالمرحوم فينا.
النفس تميل لمن أحسن إليها والله يحب المحسنين فمن أراد أن يجمع بين محبة الخلق ومحبة الحق فعليه بالإحسان.
يقول في حق أبيه سيدي الحاج العباس قدس الله سره : لقد حصل بالسخاء ما لم يحصله بالعبادة والرياضة. وكان سيدي أبي مدين يقول : من ادعى لكم محبة الله ورسوله ، فاختبروه بالبذل والعطاء في سبيل الله ، فإن استجاب ولو بالدرهم أو الدرهمين ، وإلا فهو مدع لا حقيقة لمحبته.
لا يكون السخي سخيا حتى ينسى ما أعطاه ، ولا يذكره أبدا.

من كرامات جده رضي الله عنه : ( المكاشفة )
ويحكى عن جده سيدي المختار قدس الله سره أنه لما ارتحل من الجبل إلى سيدي تريفة حيث توجد لحد الآن أنقاض زاويته. وكانت غابة مخوفة لا يسكنها إلا اللصوص وقطاع الطريق ، مرت جماعة من اللصوص بباب داره ، فرأوا بقرا له يرعى ، قال بعضهم لبعض: يقال أن شيخا سكن هذه الغابة ، وأن هذا بقره فهيا نمتحنه ونسرق بقره ونذهب ، ولم يسعفهم واحد منهم على امتحانه ، قائلا : إن هذا من أولاد سيدي المختار الكبير، وأنتم تعلمون شوكة هؤلاء الشرفاء وسطوتهم. فلم يسعفوه وقصدوا خيام الشيخ وطلبوا منه بعض الطعام فأطعمهم وأصلح من حالهم ، ولما كانوا راجعين ، قال لهم : لا تذهبوا حتى تأخذوا لصاحبكما الذي ينتظركم وسط أدغال الغابة بعض الطعام ، فدهشوا وارتبكوا وعادوا إلى صاحبهم وأحجموا عن فعلتهم.
البذل والسخاء والجود والعطاء
الكرم وصف لا يفارق المحبين وشرط عليه قام سلوك السالكين ، واستقام سير السائرين ، فلا تجتمع المحبة والشح في القلب أبدا.
الدعوة إلى الله بالحال والعمل والمقال
من أهل الله من يدعو إلى التحلي قبل التخلي ، ومنهم من يدعو إلى  التخلي قبل التحلي.
نصائح و توجيهات قدّمها سيدي الحاج العباس قدس الله سره لمريديه بتاريخ 26 رجب 1388 /19اكتوبر 1968
بسم الله الرحمان الرحيم
من السيد الضعيف , المفتقر إلى ربه , الحاج العباس القادري , إلى أبنائه  وإخوانه في الله أبنائي و إخواني في الله.
  • تعلمون من طبيعتي الصَّمتًَََُ , والإقلالُ من فضُول القول , لكن بعض التّساؤلات من قِبَـَلِكُم , قد تقتضي مزيداً من النصائح , وتستدعي زيادة التوضيح , لأشياءَ قد كنت وضحتها عن هذه الدعوة إلى الله , التي حَمَّـلتني القدرة الإلهية منذ سنوات أمرها.
     v            أبنائي إخواني في الله .
  • لعلكم تدركون من خلال مذاكراتنا السابقة , أنَّ الطريقة الصوفية التي دأب عليها أسلافنا , منذ قرن و نصف , هي الطريقة القادرية , التي تعد بركة من بركات العارف بالله , المربي بسر الله , الحاصل على مدد رسوله : جدنا الأعلى ، مولاي عبد القادر الجيلالي ، نفعنا الله ببركته.
  • ولعلكم تعلمون كذلك ، أنني في الوقت الذي هيأت فيه يد القدرة الإلهية من بين أفراد العائلة من يقوم بتأدية الرسالة ، في متابعة طريقة الأجداد وجدت أنا نفسي منصرفا إلى القيام بمهام الحياة فانشغلت بالفلاحة.
  • ومن الحق أن مهام الحياة ، حالت دوني في شبابي ودون إشباع نهمي في العلم ، فاقتصرت على معرفة ما يلزم معرفته بالضرورة ، من أمور الشرع ، وقراءة القرآن ، وأحكام الحلال والحرام . ومن فضل الله علي أنني لم أٌحْرَم من إدراك مقاصد الآيات و الأحاديث و الاطلاع على ما تَيَسَّر من سيرة الرسول و أخلاقه  وأحوال صحابته ، و على بعض ما أٌثِرَ على السلف الصالح من الأقوال و الأفعال.
  • وبذاك تدركون أنني لست بشخص يَدَّعي ، ولا بِعالمٍ ينصب نفسه للفتوى ، و لا بمحَدِّثٍ يتَصَدَّى لإرشاد الناس عن طريق شرح الكتاب والسنة . فتلك مهمة العلماء المختصين في دراسة النصوص ، و العُكُوف على فحصها ،  و معرفة صحيحها من سقيمها.
  • وإنما علاقتي بكم علاقة روحية تربوية أخلاقية ، أساسها الصحبةُ في الله ،  والمحبةُ من اجله ، و الاجتماعُ على ذكر الله ، و التعرضُ لنفحاته ، و الاشتياقُ إلى معرفة الله ، و الكَرَعُ من مَدَدِ رسوله ، بغية طهارة القلب ، وصفاء السَّريرة ، وتقوية الباطن ، وتنويره بنور الإيمان. ثم ما ينتج عن ذلك ، من إلهام بالدين  وصلاح الأخلاق ، وكُلِّ الأعمال و التصرفات ، إذ بصلاح الباطن يكون صلاح الظاهر. فمن حديث النبي صلى الله عليه و سلم " ألا و أن في الجسد مضغة ، إذا صلحت ، صلح الجسد كله ، وإذا فسدت ، فسد الجسد كله ألا و هي القلب ".
  • ولهذه الغاية الشريفة وحدها ، ينبغي للعبد الصادق في طلبه ، أن يفوض الأمر، ويقوي العزم ويقصد ربه ، دون تشوف إلى ماذا سيختاره الله لعبده. و يَشْهَدُ اللهُ وملائكته ، أَنَّنِي يوم جِئْتُ شيخي ووالدي الروحي سيدي أبي مدين رحمه الله ، لَمْ يَجُلْ ِبخُلدِى، و لاَ مَرَّ بخاطري أن أكون يوماً أهلاً لأنْ أِرثَ سِرَّه ، ولا أن أقوم بعده ، بدعوة أو إرشاد . بل جئته صادق الطلب ، وأسلمت له زمام نفسي ليساعدني على معرفة حقيقتها، ويعينني على إزالة الحجب التي تحول بين العبد و ربه . وأنَّى للحجب أن تزول ، بدون تربية روحية صالحة ، يلتقي فيها صِدقُ الدعوة مع صِدقِ الطلب.
  • إن نشأتي في أحضان الطريقة القادرية. طريقة الآباء و الأجداد ، وفي كفالة  والدي رحمه الله على ما عرف به من الصلاح ، لم يعقني من تجديد العزم ، والرغبة في التماس المربي ، باعتباره السبيل المجدي إلى طريقة السلوك والتدرج في المقامات. و من قبل كانت لي أسوة حسنة ، و قدوة صالحة في جدي الثالث (الحاج المختار الثاني ) الذي سلك نفس السبيل . فقد وفقه الله ، واسلم زمام نفسه إلى مرب من ذوي المقامات الروحية العليا في عصره ، رغم نشأته في أحضان الطريقة والتصوف ، فأراه الله على يده من فضله وتيسيره ، ما جعله يصل إلى مقام الحصول على الإذن في اسم الله الأعظم ، فتجددت التربية في يده ، وعُدَّ بذلك من المربين. لكن قبيل وفاته نصح ابنه بالتخلي عن اسم الله الأعظم ، وعن التربية والعودة إلى التبرك. لان ابنه لم يصل بعد إلى مقام التربية. و من ثم يبدو أن من علامات المربيين يستقل عن أساليب مَن قَبْلَهُ، بالتصرف في وسائل التربية الروحية ، وان يحصل على مقام الإذن في اسم الله الأعظم ، دون حصر ولا عدد.  ومن قديم كان المربون ينصحون غير الواصلين من أصحابهم بالبحث عن هذا النوع بعد موتهم ، ليتابعوا سيرهم نحو السلوك والتدرج. ولذلك أنصحكم بالاتصال بمن جاء بعدي ، حتى لا تقف بكم النفس عن متابعة السير. ومن طَلَبَ رَّبَهُ بِصِدْقٍ وإخلاص طَلَبَهُ في كل مكان ، واستعان على معرفته بكل من اظهر فضله على يده.
  • نعم ، صاحبت سيدي أبي مدين رحمه الله بصدق وإخلاص ، وعاشرته معاشرة خالية من كل حظ أو تشوف ، أجد روحي وراحتي في مجالسته ، لأنني أحبه ، وأحبه حبي لوالدي أو أشد. و ما وعيت أنني خالفت مرة أمره ، أو أهملت إرشاداته التربوية . فهو أهل لكل اقتداء . فقد كان من أخلاقه رحمه الله التواضع و القناعة والزهد في الدنيا ، وكان من سيرته التمسك بالسنة ، وعُرف عند الجميع بالتشدد في أمور الشرع إلى أبعد الحدود ، يغضب لأدنى مخالفة شرعية ترتكب أمامه. كان قويا في ذات الله ، وكان لا يقبل من بين المريدين ، من تهاون في أمر من أمور الدين ، أو استهان بسيرة سيد المرسلين.
     v            أبنائي إخواني في الله
  • هذه صورة صغيرة مقتضبة ، تحكي لكم قصة اتصالي بشيخي ووالدي الروحي سيدي أبي مدين رحمه الله ، و تروي لكم الأثر الطيب الذي تركته تربيته في نفسي ، وبواسطتها ستتعرفون على شيء من حياته و سيرته وأخلاقه التي لامناص لكم من التخلق بمثلها إذا رمتم الصلاح والكمال ، وعلى ضوئها تتشخصون كذلك العلاقة الروحية ، والمحبة القلبية التي تجمعني وإياه .
  • ولا أكتمكم أن أهم محاورة جرت بيني و بينه ، كانت فيما يتصل باستمرار رسالته التربوية بعد موته. فقد كان رحمه الله يربي الأرواح الطاهرة بعد مرحلة تصفية الباطن وتطهيره عن طريق ذكر الله الذي ارشد إليه الكتاب و السنة بواسطة اسم الله الأعظم ، لأنه من المأذونين لهم في التربية. والإذن في اسم الله الأعظم دون حدٍّ ولا عدد ، يعتبر منزلة جليلة ، قد لا ينالها إلا ذوي المقامات العليا من العارفين ، و خاصة الخاصة من عباد الله الصالحين .
  • وجدير بمن كانت هذه حالته، في التمسك بالسنة ، والسير على هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهدي صحابته ، ممن اجتباه الله لحضرته ، وأيده بتيسيره وتوفيقه ، أن يجرى فضله وأسباب هدايته على يديه ، وان يصلح به الدين ويقيم به الاعوجاج ، ويحيي به السنة.
  • أما من قصرت همته وحاله عن مثل تلك المقامات ، ولم تسقه القدرة الإلهية القاهرة إلى التكليف بتربية عباده ، وإرشادهم ، فأولى به إن يعمل أولا على صلاح ذات نفسه ، ثم يبدأ بمن يعول . فجريان أسباب البداية على يد البشر، ورحمة الله الناس بعضهم ببعض ، من الحكم الإلهية التي لازالت العقول البشرية تحار في فهمها .
  • نعم ، إن أهم محاورة جرت بيني و بين سيدي أبي مدين رحمه الله ، أن ندبني آخر حياته للمسؤولية وحَمَّلَنِي الأمانة وكلفني بأمور التربية بعده فلم أقبل وامتنعت وألح علي فاعتذرت و أشرت لمن هو أولى بها وأحق . وأبى رحمه الله ثقة بي إلا أن أتحملها طوعا أو كرْها ، فسكت مراعاة للأدب.
  • وفعلا توفي سيدي أبي مدين رحمه الله سنة  (1375ﻫ)  ولم أجد إثر وفاته ، في طبيعتي التي تميل إلى الصمت ، ومزاولة الأعمال أيَّ استعدادٍ للقيام بالواجب . مع شديد تخوفي من تضييع المسؤولية والتهاون في أداء الأمانة. ويالها من مسؤولية جَسِيمَةٍ مع وَهَنِ العظم وضُعف الجسم وكِبَر السَّنِّ ولكن ما العمل؟ فقد بقيت على طبيعتي ساكتا نحو خمس سنوات ، بعد موت سيدي أبي مدين رحمه الله ، ولم أر لنفسي أية أهلية للإقدام على أمور التربية ، و لم اشعر في نفسي بنفس الثقة التي وضعها في . بل كنت أرى بنفسي اضعف تلاميذه ، وأحوجهم إلى التعرض للفضل والرحمة . ولكن لأمر أراده الله ، ولِيَعْلَمِ العبدُ أن إرادة الله فوق إرادته ، وان قوة أخرى غير قوته تسيره ، كان من الدواعي والأسباب ، ما ألزمني القيام بالواجب .
  • ففي سنة ثمانين وثلاثمائة وألف (1380ﻫ) ، حضرت مجلسا من مجالس الذكر، فشاهدت أشياء تتصل بالتربية ما كان لها أن تقع ، لو بقي سيدي أبي مدين مربيا روحيا على قيد الحياة ، أو بقيت وسائل تربيته الروحية مستمرة بعد موته . ثم إنني شعرت أنني حملت مسؤولية لابد من تأديتها ، وان الأشياء التي تقع أمامي في ميدان التربية الروحية ، سوف أُسأل عنها أمام الله ، إن أنا تغاضيت ولو أحاول علاجها فقبلت لذلك أن آذن في الذكر و في الاسم ، لمن عرف بوصية سيدي أبي مدين، وكان يراودني عن ذلك منذ وفاته. وبذلك ظهر هذا الأمر وعرف. وتوافد عليه الناس من كل صوب وحدب .
  • و من لطف الله بنا وبكم ، أننا لم نوص في هذا الأمر باتخاذ شكل من أشكال الاصطلاحية مما اعتاده أصحاب المعني عند الأقدمين ، يوم كانت العزائم قوية ، ويوم كان التخشن والعزلة والمجاهدة المضنية أساسا للتغلب على النفس وإزالة حجبها. وقد علم الله ضعفنا ، وكثرةَ مشاغلنا في هذا العصر فألهمنا بفضله أن جَمَاعَ الأمر كله في الذكر وحسن العبادة ، وان خلوة المؤمن في قلبه ، وان الإكثار من ذكر الله مع القيام بكل الواجبات الدينية ، والوقوف عند الحدود الشرعية ، كفيل بطهارة القلب والتغلب على طاغوت النفس وإزالة حجبها. ولاشك أن هذا التسيير المنبثق من روح السنة ، والمساير لمشاغل الناس في هذا العصر ، كان إحدى الأسباب التي مكنت الناس على اختلاف طبقاتهم من الاستفادة من هذا الأمر ويعتبر هذا الأسلوب في التربية من تمام إرشادات سيدي أبي مدين رحمه الله . فقد رآني مرة أشقى ، وأحاول ما فوق مقدرتي ، فنهاني ،فقال " دخلنا على التربية من باب الجلال فتعبنا ، ودخلت أنت من باب الفضل والجمال ، فالزم ولا تبرح " .
  • وكذلك كان الأمر، فقد طرحنا بعده سبيل الشدة والانعزال ، ولم نأخذ من الوسائل إلا الذكر والاجتماع لأجله ، فتيسرت الأمور بحمد الله ، ولم يمر على هذه الدعوة إلى الله ، إلا مدة يسيرة ، حتى استنار بسببها قلوب خلائق ممن حسنت نواياهم ، وشرفت مقاصدهم ، ولم يدنسوها بحظ نفسي أو غرض دنيوي .
  • وذكر الله والاجتماع لأجله ، ليس بشيء جديد عن الإسلام . وإنما هو شيء ارشد إليه القرآن في كل المواقف ، وفي جميع الأحوال. ويكون إما بالقلب أو باللسان أو بالتذكر وعدم الغفلة قال الله جل جلاله " ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين"  وقال عز من قائل "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه وكان أمره فرطا" وقال " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويفتكرون في خلق السماوات والأرض" وقال "..رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " وقال " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا" وقال " فإذا قضيتم الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون" وقال " إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين امنوا صلوا عليه وسلموا تسليما "
  • وكذلك السنة ، فقد أرشدت إلى ذكر الله فرادى وجماعات سرا وعلانية قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله ( أنا عند ظن عبدى بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فان ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وان ذكرني في ملا ذكرته في ملا خير منه) وقال صلى الله عليه و سلم " يا أيها الناس إن لله سرايا من الملائكة تحل وتقف على مجالس الذكر في الأرض ، فارتعوا في رياض الجنة ، قالوا وأين رياض الجنة ؟ قال مجالس الذكر ، فاغدوا وروحوا في ذكر الله . وقال صلى الله عليه و سلم " ما من قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة ، ونزلت عليهم السكينة ، وذكرهم الله فيمن عنده " إلى غير ذلك من الآيات الكريمة ، والأحاديث النبوية الشريفة.
  • وهكذا كان الكتاب والسنة يرشدان إلى ذكر الله والدعوة إلى الاجتماع على الله والمحبة من اجله وإذا كان من سرٍّ خافٍ في الاستفادة من الدعوة إلى الله، في أي عصر من العصور، وثَم الانتفاع بها والاستفادة من هديها وإرشادها فهو يكمن في الصدق والإخلاص ، ومعاملة الخالق جل جلاله بما يعلمه في السرائر، وما تخفيه الصدور، لأنه تعالى لا ينظر إلى صور العباد ، وإلى أقوالهم ومظاهر أفعالهم ، ولكن ينظر إلى قلوبهم ونواياهم . وفي طريقه لا يكفي قول الخير أو ادعاء العمل به ولكن العبرة بثبوته في القلب واستقراره في النفس . قال تعالى " إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا".
  • اعملوا أبنائي إخواني في الله لهذه المعاني وادعوا إلى الله على هذه الصفة واعلموا أن الصدق مع الله ، ومع عباده ، صفة واجبة في حق الرسل وفي حق الصادقين من أتباعهم بل هو أساس الدعوة إلى الله والإرشاد إلى دينه. ومن دلائل الصدق أن يكون الظاهر موافقا للباطن ، وان تكون الأقوال موافقة للأعمال . قال الله تعالى "يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " .
  • فالدعوة إلى الله قبل أن تنجح بالأقوال تنجح بالسلوك والأخلاق وحسن المعاملة ومن دعا إلى الله بصدق دعا بأعماله وأخلاقه قبل أن يدعو بأقواله وإرشاداته ، إذ لا إسلام بدون عمل صالح وأخلاق فاضلة ، وإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم  "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر جهاد النفس" ، فما ذلك إلا أن جهاد النفس أصل لكل بناء وأساس كل عمل صالح وخلق حسن ، فيه تمسك الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته فسعدوا ، وعليه يتوقف جهاد المسلمين ليسعدوا كذلك " انه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها " .
  • نعم إن الصدق أمانة في عنق كل مسلم ، والدعوة بصدق إلى دين الله والرجوع إلى العمل بشريعته ، قائمة بقيام الأرض والسماء وبنص القران يتحمل مسؤوليتها كل من اتبع الرسول ، واهتدى بهدى القران ، وكان على بصيرة من أمره قال الله جل جلاله " قل هذه سبيلي ادعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين".
  • فكتاب الله هو المرجع ، وشريعة القران هي أساس الدعوة إلى الله ، وروح كل عمل إسلامي وبذلك تعتبر كل تربية روحية لم يساندها القران ، ولم تستهدي بهدى الرسول عملا خاطئا .
  • على إن كتاب الله ، لا يعيش معه بقلبه ، ولا يستفيد منه لتربية روحه ، إلا من طهر قلبه واستنار واخلص لله النية في تلاوته وتدبره ، وحملته نورانيته وهدايته على مفارقة من اتخذ أية سبيلا للوصول إلى الأغراض وقضاء الحوائج ، فغير صادق في قراءة القران من اهتدى بغير هديه ، وتهاون في تطبيق أوامره ونواهيه ، فالذي يتلو القران وقلبه في غفلة عن فيضه وهدايته ، والعمل بشريعته ضيع القصد من حفظه وتلاوته وصدق عليه قول النبي صلى الله عليه و سلم " رب قارئ للقران والقران يلعنه " ، وهم الذين وصفهم الحديث بان القران لا يتجاوز حناجرهم أي لا يصل إلى قلوبهم ، عصمنا الله وإياكم من الإلحاد والابتداع ، ومن كل زيغ وانحراف.
     v            ثم إن للتربية الروحية أسسها ووسائلها
  • أما أسسها فهي ــــ كما تعلمون ــــ تنحصر أولا وقبل كل شيء في العمل بالكتاب والسنة ، والقيام بالواجبات الدينية ، والوقوف عند الحدود الشرعية من حلال وحرام ، باعتبارها المقياس الذي يعرف به الصلاح من الفساد . وقديما قد قيل " الاستقامة خير من ألف كرامة " وسئل بعض العارفين ما سبب انفصال بعض المريدين عن تربيتك ، فأجاب إن قلبي متعلق بالشريعة ، ومن خالف الشريعة انفصل عني ' وأحكام الشرع ولله الحمد سهلة يسيرة. وهي التي سطرت أصولها في الكتاب والسنة ، ودونت قوانينها في الكتب الفقهية ، ويظهر أثرها في أعمال الناس ، و في أقوالهم وأفعالهم وتصرفاتهم . فشريعة الله خير ما تمسك به المتمسكون ، وسنة رسول الله خير ما يهتدي به المهتدون . قال الله جل جلاله " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " وقال عز من قائل " وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " وقال النبي صلى الله عليه و سلم " تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ، كتاب الله وسنة رسول الله" .
  • وبمقتضى هذه النصوص تكون وصيتي إليكم ما أوصى به الإسلام ، ونصيحتي ما نصح به الرسول وليس احد في الشرع بمسؤول عن احد ، فيما يرتكب من مخالفة ، أو يجني من جريمة إلا بقدر ما يرشده وينقذه ويتمنى له الهداية و حسن المآب ، فمصير الخلق اجمع إلى خالقهم ومحاسبهم ، إن شاء بفضله عفا وان شاء عاقب . وخير أحوال المؤمن هي التي لا يُزكي فيها عمله ، ولا يرى فيها لنفسه فضلا على غيره ، و يكون في قرارة نفسه أوثق بما عند الله منه بما في يده ، لأنه لا يَعْتَدُّ أمام فضل الله بعمله إلا القوم الضالون ، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون . ففي الحديث " قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء " ومن دعاء النبي صلى الله عليه و سلم 'اللهم يا مثبتَ القلوب ثبت قلبي على دينك" وقديما قد قيل لم يقطع أعناق العارفين إلا سوء الخاتمة إذ لا درجة ولا علم ولا عمل ، ينفع فيما قدر في علم الله في الأزل . فأي درجة تبدو أمام درجة سيد المرسلين ، وخاتم النبيين ، و هو القائل لبنته و فلذة كبده "لا اغني عنك من الله شيئا " وقال عن نفسه تشريعا لامته "والله لا ادري ما يفعله الله بي ولا بكم إلا أن يتغمدني الله برحمته" ولعل هذا المعنى هو الذي حمل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على القول المنسوب إليه " ليت أم عمر لم تلد عمر ولم ير الدنيا ولم يكن من البشر".
  • أما وسائل التربية الروحية لمن حسنت نواياهم وشرفت مقاصدهم ، وصدقوا بجدوى الغاية التي رموا إليها . فهي تنحصر في الذكر والاجتماع من اجله. وقد نصحناكم بالإكثار من الذكر ، لما فيه من طهارة القلب ، وضمان حياته وعلاجه . فأي طبيب غير الذكر ينفع في قلب أظلمت جوانبه ، وتصدت مرآته . وأي دواء غير الذكر يستطيع أن يعيد للباطن صفاءه و استقراره. ففي الأثر (لكل شيء جلاء وجلاء القلوب ذكر الله) . والذكر النافع الذي يؤثر على النفس ، ويهز المشاعر والأحاسيس ، ويحيي المؤمن حياة طيبة ، ويخلقه خلقا معنويا جديدا ، هو الذكر القلبي ، المنزه من كل حظ نفسي أو غرض دنيوي ، البعيد عن الاحتراف والخلط واستعمال الأسماء ، وغير ذلك مما لا يليق بمقام المخلصين الصادقين . قال الله جل جلاله " أفمن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ".
  • وحين يكون ذكر الله صادرا من قلب طاهر مستنير بنور الإيمان ، فان الشيطان يفارق سبيله ، وكان ما ينشا عن هذا النوع من الذكر من الأسرار أنوارا ربانية تمس قلب المؤمن فتتجلى أحيانا في أشكال جدبية مهمتها تشجيع السالك على متابعة السير نحو تحقيق الاستقامة والاشتياق إلى معرفة الله غير انه لا ينبغي أن يفتن بمثل هذه الأسرار من كان يعيش في الحس وكان ما يقع في عالم الروح فوق طاقته . ففي الأثر "خاطبوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله ورسوله" .
  • وعلى العاقل أن يتأدب مع تلك الأسرار ، إن بدت بوادرها ، وان يصون تلك العلامات ،ولا يغتر بها وان يتحكم ــ جهد المستطاع ــ في تلك الأحوال ، حتى لا تخرجه عن حدود الأدب الشرعي ، خصوصا في المواقف الدينية . ومن تمام الصدق أن تكون الأحوال الظاهرة موافقة للأحوال الباطنة ، وان ينشأ كل شعور ظاهري عن شعور باطني . ومن ثم امتازت تربية سيدي أبي مدين رحمه الله بطرح كل تواجد ظاهري ، وان  'العمارة' لا يعمل لأجلها ولا يسمح بها إلا لمن عظم عليه الأمر واشتد شوقه وحاله عند سماع الذكر وقراءة القران ، فتحركت عن غير اختيار منه جوارحه بتحرك باطنه فيترك ــ دون غيره ، وشانه حتى يعود إليه استقراره الباطني . والأمر في ذلك واضح بينما يخلقه الله في العبد أثرا للذكر، وبين ما يصنعه العبد بيده .
  • ونصحناكم كذلك بالإكثار من الاجتماع ، إذ لا تربية بدون مجالسة ، ولا توادُدَ بدون اتصال . فبفضل المواظبة على الاجتماع ، حسب الإمكان ، والاتصال بالأرواح الطاهرة وتساقيها بعضها من بعض ، يتغلب المؤمن على المحسوسات ويقوي في نفسه الجانب المعنوي ، وبفضلها كذلك ، يتحول المنحرف عن أخلاق وطبائع تقوده إلى الشقاء إلى أخلاق وطبائع تقوده إلى الطهر والسعادة . وقد عرفتم من بينكم الكثير من الشباب الذي أظلمت الدنيا في وجهه ، ونزل جحيم الانحراف على قلبه ، فضاقت السبل في وجهه على اتساعها ، قد انفرجت الدنيا مرة أخرى أمام عينيه ، ونزل على قلبه رحيق السكينة والطمأنينة ، وذاق نعمة الإيمان وراحة النفس التي لا سعادة بدونها . إنها الحقيقة التي يكشفها الإنسان في باطنه ، ولأنها رحمة الله إذا مست القلوب شعرت بالسعادة ، ورأت هذا الكون على ما فيه من كدر ، كله صفاء وسعادةٍ ،وغضبه إذا نزل ، تحولت معه الحياة الدنيا جحيما لا يطاق.
  • غير أن مجالس الذكر التي تؤدى إلى هذه الغاية الحميدة ، هي المجالس التي لا يوجد فيها سوى الله ، وهي المجالس الطاهرة من كل رجس ومن كل حظ نفسي أو غرض دنيوي ،لان نور الإيمان سر خفي ، لا يشعر به إلا المحقون ، ولا ينتقل إلا بين القلوب الطاهرة الصادقةِ ، وبذلك ستضعون كل عمل في مكانه ، وكل مقال في مقامه ، وتعلمون أن كل ما يشغل عن الله ، أو يحول القصد من مجالس الرحمة والتعرض للنفحات إلى مجالس الحظوظ ، وقضاء المئارب يعتبر عائقا يجدر الانتباه إليه . فالعبرة في المجالس الدينية ، وفي كل عمل إسلامي لا تكون إلا بالنية ، ولا يكون فيها للمرء إلا ما نوى . فالذي يقصد المجالس الدينية لغرض دنيوي أو حظ نفسي ، خسر من حيث الناس يربحون . ومن تجرد قلبيا عن كل غرض وأتى مولاه يستمطر رحماته ، ويتعرض لنفحاته ، كان له ما قصد ، وفاز من حيت الكثير من الناس يخسرون . قال النبي صلى الله عليه و سلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
     v            أبنائي إخواني في الله .
  • هذه نصيحتي إليكم ، وإذا نصحتكم بشيء فانا أولى من يتمسك به ، فالله سائلي عن قول لا اشعر به أو نصيحة أعلم غيرها . واكرر القول بان من تجاوز عمره الثمانين ، وفقد الصحة والبصر لكبر سنه لا يكون في حاجة  إلى جاه أو مال أو أي غرض دنيوي يحمله على قول غير الحقيقة . ولذلك ستعملون بمقتضى هذه النصائح .
  • وخير ما أنصحك به وأنا على عتبة القبر ، أن تعتمدوا على الله في كل أحوالكم ، وان تعملوا قبل أن تقولوا ، وان تخلصوا لله النية في القول والعمل ، وان ترشدوا عباد الله  إلى دين الله بصدق وإخلاص وتجرد . فهو اعلم بمن قصده وبمن قصد غيره . ولتكن معاملاتكم وكل أعمالكم مبنية على التناصح والصفاء وإرادة الخير العميم لجميع المسلمين دون تمييز ولا تفرقة . قال النبي صلى الله عليه وسلم " الدين النصيحة. قيل لمن يا رسول الله . قال لله ولرسوله ، ولائمة المسلمين وعامتهم" ، واحذروا في طريق الله أن يزحزحكم الشيطان عن سنن العاملين الصادقين . فالتجربة قائمة عند أهل الله ،على أن الدعوة الخالصة لوجهه ، تنفي الخبث ، كما ينفي الكير وسخ الحديد . وقد أبت القدرة الإلهية ، أن يستفيد من أسرارها ، ويتمكن من حقيقتها ،إلا من صحح العزم ، وحسن النية ، وقصدها أولا، لا لشيء إلا لإصلاح ذات نفسه ، ومحاولة معرفة حقيقتها .ثم لا ينبغي لأي كان أن يحول ذكر الله بينه وبين ما طلبه الشرع من القيام بالواجب ، وأداء الحقوق ولا أن يترك احد الاكتساب والعمل ويتخذ الدعوة إلى الله وسيلة للمعاش . فيعمل كل فيما أقامه الله بصدق وإخلاص ، وليراقب الله في عمله قبل أن يراقب الخلائق،  وليكن ذكر الله وقوته وتيسيره خير عون للعبد للتغلب على أمور دينه ودنياه. فان الله يحب العبد المحترف، ويحب اكتر المؤمن النصوح المتقن لعمله. واملئوا أوقات فراغكم بذكر الله، واجتمعوا لأجله بعد الانتهاء بمشاغل الحياة . فذلك أجدر بالعمل بالنص القائل ' اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لأخرتك كأنك تموت غدا' .وتدبروا أبنائي إخواني في الله هذا الكلام واعملوا بمقتضاه، لتكونوا على بصيرة من أمركم . نسأله تعالى أن يلهمنا الصواب ،ويهدينا الصراط السوي، ويوفقنا و جميع المسلمين إلى ما فيه سعادة الدارين انه سميع مجيب. انتهى

تم بعون الله تحرير هذه الفوائد والنصائح بمداغ يوم السبت 26/ رجب سنة 1388

ليست هناك تعليقات: